الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في استلحاق الولد

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن باع صبيا صغيرا في يديه ثم أقر أنه ولده قال: يرد إليه إذا كان ولد عنده، ونزلت بالمدينة فرد البيع فيه بعد خمس عشرة سنة، وكذلك قال مالك، وإن لم يولد عنده فإن القول قوله أبدا، إلا أن يأتي بأمر يستدل على كذبه، قيل لابن القاسم: وإن لم تكن أمه في ملكه، ولا كانت له زوجة أيصدق إذا كان الابن لا يعرف نسبه؟ فقال: قال مالك: من ادعى من لا يعرف كذبه فيما ادعى فيه ألحق به، والذي يعرف به كذبه: أن يولد في أرض الشرك فيؤتى به محمولا ويعرف أن المدعي لم يدخل تلك البلاد قط.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله: استلحاق النسب يكون على وجهين: عن ملك يمين، وزوجية، وادعاؤه عن ملك اليمين على ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                        أحدها: أن يكون في ملكه، والثاني: أن يكون في ملك غيره وقد باعه، والثالث: أن يكون في ملك غيره ولم يبعه، فإن كانت الأمة وولدها في ملكه كان في استلحاقه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                        أحدها: أن يلحق به، وتكون أمه أم ولد.

                                                                                                                                                                                        والثاني: أنه لا يلحق به، ولا يعتق عليه، ولا تكون أمه أم ولد. [ ص: 4059 ]

                                                                                                                                                                                        والثالث: أنه لا يلحق به، ويعتق عليه، وتكون أمه أم ولد، فإن قال: ولد عندي من غير هذا الملك، ولها في ملكه ستة أشهر فصاعدا -لحق به، وكانت أمه أم ولد، وإن كان دون ستة أشهر لم يلحق به ولم يعتق عليه، ولم تكن أمه أم ولد؛ لأن ذلك مما يقطع فيه بوهمه، وإن لم يدر ما أقامت في ملكه صدق فيما يقوله من قليل أو كثير.

                                                                                                                                                                                        وإن قال: هو ولدي من إصابة تقدمت قبل هذا الملك؛ لأني كنت ملكتها في وقت كذا، وشهد شاهدان أنها كانت حينئذ ملكا لغيره لم يصدق، وظاهر قول سحنون: أنه لا يعتق.

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يعتق، وتكون أمه أم ولد؛ لأن تلك الشهادة لا توجب إلا غلبة الظن، فلا يقطع بصدقها، وهو مقر على نفسه أنها كذبت، وأنه حر، وأن أمه أم ولد، وإن علم أنها كانت في ذلك في ملكه، وأتت به لما يشبه أن يكون عن ذلك الوطء، ولم يصبها بعد بيعه أحد حتى ولدته -ألحق به، وإن أتت به لمثل ما لا يكون عن ذلك الوطء أو أصابها غيره بعد- لم يلحق به، ولم تعتق عليه، ولم تكن أمه أم ولد؛ لأنه مما يقطع بكذبه وهو رجل جهل وجه لحوقه به.

                                                                                                                                                                                        وإن لم يعلم هل ملكها أم لا صدق على قول ابن القاسم، وألحق به، ولم يصدق على قول سحنون؛ لأنه لم يثبت أنها كانت له فراشا، وإن كانت الأمة وولدها في ملك غيره فاستلحق ولدها وعلم أنه كان مالكا لها- لحق به، وردت الأمة والولد إليه إن أمكن أن يكون ذلك الولد عن ذلك الملك، وإن [ ص: 4060 ] علم أنها لم تزل ملكا لغيره في حين ولادتها لم يصدق، وإن لم يعلم هل ملكها أم لا وكذبه سيدها -لم يصدق، وهذا قول محمد وقول ابن القاسم، وأصل قول مالك وابن القاسم أنه مصدق في كل موضع يشكل أمره، ولا يتبين كذبه، ولا فرق بين ولد الحرة وولد الأمة إذا لم يكن للولد أب معروف؛ لأنه لا بد أن يكون له أب إلا أنه لا يسقط بذلك ملك من هي في يديه، ولا تنتزع من يده إلا أن يعلم أنها كانت ملكا للمستلحق، وأن ذلك الولد يشبه أن يكون عن ذلك الملك.

                                                                                                                                                                                        وإن قدم بذلك الولد من بلد آخر فاستلحقه، وعلم أن هذا المدعي لم يدخل ذلك البلد، وأنه غاب غيبة لا يمكن أن يكون وصل إليه، ثم قدم في تلك المدة لم يصدق، وإن علم أنه دخله صدق وألحق به، وهذا قول مالك وابن القاسم في المدونة، وصار هو والولد في حكم الطارئين.

                                                                                                                                                                                        واختلف عنه إذا لم يعلم هل دخله أم لا؟ فقال مرة: إذا أتى به محمولا مثل الصقالبة والزنج ويعلم أن هذا لم يدخل تلك البلاد قط لم يلحق به. وقال مرة: [ ص: 4061 ]

                                                                                                                                                                                        إذا ادعاه ولم يعرف أنه دخل تلك البلاد لم يلحق به ولم يصدق، وصدقه إذا علم أنه دخل ذلك البلد، فعلى هذا يصدق في المحمولين إذا استلحق أحدهم الآخر وقال: هو ولدي، ولا يكلف بينة، وإنما يكلف البينة إذا ادعى أنه أخوه أو ابن عمه.

                                                                                                                                                                                        وقال القاضي أبو الحسن بن القصار: لا يقبل قوله.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ: والأول أحسن؛ لأن الطارئين من بعض بلاد الإسلام لا خلاف أنه يصدق في استلحاقهم، وإنما لا يصدق في الولادة التي تكون بين أظهرنا؛ لأنه لا يخفى النكاح إلا أن يكون المصر الكبير.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية