الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيما يجوز من فسخ الدين في الدين وما يمنع، وهل يأخذ عن الدين منافع عبد أو دابة أو ثمر في رؤوس النخل، أو دارا غائبة أو جارية توضع للاستبراء أو على خيار أو طعام يكثر كيله

                                                                                                                                                                                        ويجوز لمن له دنانير حالة أو إلى أجل أن يفسخها إلى أجل في مثلها في الوزن والجودة، وفي أدنى وزنا وجودة، ولا يجوز في أكثر ولا أجود، وهو سلف بزيادة، ولا في دراهم، وهو فسخ دين في دين، وصرف مستأخر، ولا في عروض، وهو فسخ دين في دين، فمنع فسخ العين في العروض، والعروض في العين بعد محل الأجل للحديث.

                                                                                                                                                                                        وقد كان ربا الجاهلية يقول الرجل لغريمه بعد محل الأجل: تقضي أو تربي. وكذلك فسخ ذلك قبل الأجل ليؤخره إلى أبعد من الأجل، وهو في معناه؛ لأنه لا يؤخره لبعد الأجل إلا بزيادة، وفسخه قبل الأجل ليأخذه بعد ذلك عند الأجل أو لأجل قبل الأجل الأول ممنوع شرعا غير معلل، فلا يجوز وإن فسخ الأول فيما يكون أقل قيمة، ولا يجوز أن يفسخ ما حل من دينه أو لم يحل في منافع عبد أو دابة إذا كان ذلك مضمونا.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان العبد أو الدابة أو الدار معينا على ثلاثة أقوال: [ ص: 4194 ]

                                                                                                                                                                                        فمنعه مالك وابن القاسم إذا حل الأجل الأول أو لم يحل. وأجازه أشهب.

                                                                                                                                                                                        قال مالك في كتاب محمد فيمن كان له دين على رجل إلى أجل واستعمله عملا قبل محل الأجل، قال: لا خير فيه؛ لأني أخاف أن يمرض الذي عليه الدين، أو يغيب فلا يعمله فيتأخر إلى أجل آخر فإذا هو قد صار دينا في دين فلا خير فيه لهذه العلة.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه: أما إذا حل الأجل فالمنع أصوب؛ لأن ما يتأخر قبضه يأخذ بأقل من ثمن ما يقبض جميعه بالحضر، وإذا كان ذلك دخله تقضي أو تربي.

                                                                                                                                                                                        وكذلك إذا لم يحل الأجل وكان انقضاء هذه المنافع لأبعد من أجل الدين، وإن كان أجلها ينقضي قبل أو عند الأجل الأول، جاز، ولا يدخله دين بدين؛ لأنها معينة ولا تقضي أو تربي؛ لأنه لم يستحق القضاء ذلك الوقت فيجوز ها هنا.

                                                                                                                                                                                        وإن أكثر الأجل وكان لا يجاوز الأجل الأول ولا يدخله ما كره مالك من مرض الرجل؛ لأنه ها هنا إذا مرض انفسخ من الإجارة بقدر ما بقي من ذلك الأمد، وهو في هذا بخلاف أن يقاطعه على خياطة الأثواب أو ما أشبه ذلك فلا يستأجره في ذلك إلا فيما قل؛ لأن الخياطة في المقاطعة لا تتعلق بوقت [ ص: 4195 ] ويدخله ما خشي مالك من أنه إن مرض قضى في وقت آخر.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا أخذ ثمرة يتأخر جدادها:

                                                                                                                                                                                        فمنعه ابن القاسم، وأجازه أشهب، واستثقله مالك في كتاب محمد، وهو قوله في المدونة؛ لأنه قال: وإنه من أشياء ينهى عنها. يريد أنه ليس بالحرام البين، وعلى قوله في كتاب محمد يمنع ذلك بعد الأجل، ويجوز قبل إذا كان لا يتأخر جدادها بحال إلى محل الأجل.

                                                                                                                                                                                        واختلف أيضا إذا أخذ دارا غائبة: فمنعه ابن القاسم، وأجازه أشهب.

                                                                                                                                                                                        وعلى القول الآخر يمنع بعد محل الأجل؛ لأنها وإن كانت معينة فإنها لو كانت حاضرة لاشتريت بأكثر من ذلك، فالذي بينهما من الثمن ترك لمكان التأخير، ويجوز قبل الأجل إذا كان يصل إلى قبضها عند الأجل وقبل محله، ولا يأخذ بعد محل الأجل جارية تتواضع للحيضة، ولا عبدا هو فيه بالخيار؛ لأنه نقد في المواضعة وفي الخيار.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا كان قبل الأجل، وكان انقضاء الحيضة قبل الأجل وأيام الخيار، والصواب ها هنا جوازه؛ لأنها سلعة معينة فلا يدخله فسخ دين في دين ولم يحل ويتوجه القضاء فيدخله تقضي أو تربي، وقال مالك فيمن أخذ من دين طعاما يكثر كيله فيقول بعد مواجبة البيع: أنا أذهب فآتي بدوابي أو أتكارى فيها سفنا نحمل [ ص: 4196 ] فيها فيتأخر في ذلك اليوم واليومين: لا بأس به.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: وكذلك لو كان مما يكال أياما أو شهرا: لم يكن بذلك بأس إذا شرع فيما يكتال؛ لأنه لا بد من ذلك. فأجاز البيع وإن تأخر الكيل شهرا لما كان معينا حاضرا، والشأن أن الذي يشترى به ما يكثر كيله ويقل سواء، فلم يدفع لتأخير الكيل ثمنا، ولم يدخله ما خيف منه من تقضي أو تربي.

                                                                                                                                                                                        واختلف فيمن له دين فباعه من أجنبي بمنافع عبد أو دابة: فقيل: لا يجوز ذلك؛ لأنه دين في دين، وهو إن شرع في أخذ منافع الدابة لا يكون ذلك تقاضي مناجزة وهو يتأخر بعضه، وقيل: يجوز ذلك من أجنبي، فكرهه من الغريم. [ ص: 4197 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية