الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في من آجر داره ممن يتخذها كنيسة أو دابته ممن يمضي بها إلى الكنيسة أو يحمل عليها خمرا، أو يبيع عنبه ممن يعصره خمرا، أو شاته من نصراني يذبحها لعيده، وهل تجوز الكنائس في بلاد المسلمين ؟

                                                                                                                                                                                        ومن "المدونة" قال مالك: لا يعجبني أن يكري الرجل داره ممن يتخذها كنيسة ولا يبيعها ممن يتخذها كنيسة، ولا يبيع شاته من مشرك يذبحها لعيده، ولا يكري حانوته لمن يبيع فيها خمرا، ولا يؤاجر نفسه ولا دابته في حمل خمر، فإن فعل فلا أجر له، ويفعل فيه إن قبض أو لم يقبض بمنزلة ما وصفت لك في ثمن الخمر، فجعله بمنزلة من باع خمرا. وجعل ابن القاسم الصدقة بالثمن أدبا له، وقال أيضا: لا يحل له ذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال في "العتبية": إن أكرى دابته لمن يصل عليها إلى الكنيسة، أو باع شاته من نصراني ليذبحها لعيده مضى، ولم يرد وإن أكرى حانوته ممن يبيع فيه خمرا [ ص: 4967 ] أو عنبه ممن يعصره خمرا فسخ، فإن فات مضى ولم يرد. فأباح له أخذ الثمن، وقال أشهب: إن باع عنبه ممن يعصره خمرا بيع عليه بمنزلة النصراني يشتري من المسلم.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ أبو الحسن: أخف هذه الأشياء كراء الدابة لمن يصل عليها إلى الكنيسة، وبيع الشاة لعيده، ثم بيع العنب ممن يعصره خمرا، وبيع الدار ممن يتخذها كنيسة، ثم كراء الحانوت ممن يبيع فيها خمرا، وكذلك الدار ممن يتخذها كنيسة، ثم إجارة الإنسان نفسه ممن يحمل له خمرا أو يرعى له خنازير، وهذا أشدها.

                                                                                                                                                                                        فكان كراء الدابة ممن يصل عليها إلى الكنيسة أخفها; لأن المنافع تنقضي قبل أن يصل بها إلى الحرام، فأشبه من أكرى دابته من مسلم ليصل عليها إلى من يعامل بالربا، أو يشتري منه خمرا فالإجارة ثابتة إذا فاتت. وكذلك الشاة يذبحها لعيده; لأنها بعد الذبح ذكية يجوز للمسلم أن يأكلها، وكان بيع العنب ممن يعصره خمرا وبيع الدار ممن [ ص: 4968 ] يتخذها كنيسة أشد; لأن عين المبيع يصرف فيما لا يحل، وهما أخف من كرائهما في ذلك; لأنه في البيع يفعل بعد انتقال الملك، وإنما باع دارا أو عنبا بدنانير وبعد انتقال ملكه يفعل ذلك المشتري وفي الإجارة يفعل المنافع وهي في ضمان بائعها حين يعمل ذلك فيها.

                                                                                                                                                                                        وإجارة المسلم نفسه أشد; لأن فيه زيادة إذلال نفسه في مثل ذلك. ولا أرى أن يحرم عليه ثمن العنب ولا ثمن الدار، وهو في الدار كنيسة أخف; لأن إباحة عمل الكنيسة ليس إلى البائع; لأنهم إن كانوا أعطوا ذلك وعوهدوا عليه فعلوها وإن لم يشترط له ذلك البائع، وإن لم يكونوا عوهدوا على ذلك منعوا.

                                                                                                                                                                                        وقول أشهب في العنب يباع على النصراني، ليس بحسن; لأن النصراني يقول: هو كافر ممن لا يدين بتحريمه، بخلاف شراء المسلم فإن البيع عليه لحرمة المسلم. ولو كان المشتري للعنب مسلما وعلم أنه يريد للخمر، بيع عليه، ويتصدق بالإجارة عن حامل الخمر وراعي الخنازير. [ ص: 4969 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية