الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في الدية في العينين وفي الأذنين]

                                                                                                                                                                                        الدية تجب في العينين إذا ذهبتا معا، وإن كان مفترقا كان في الأولى نصف الدية وفي الثانية دية كاملة، والدية تجب في العينين إذا ذهب نورهما ، وسواء طمست أو برزت أو بقي جمالها فلا يعلم بذهاب نورها، وإن طمست بعد ذلك كان فيها حكومة، وفرق بينها وبين السن أن ديتها تجب إذا اسودت وإن [ ص: 6380 ] بقيت منفعتها. وفي كتاب الديات تمام القول فيها.

                                                                                                                                                                                        وفي السمع الدية، في كل واحدة نصف الدية ذهب سمعهما معا أو مفترقا.

                                                                                                                                                                                        قال أشهب: قال أهل العراق في عين الأعور نصف الدية كاليدين، قال: وهذا غير مشتبه ; لأنه يبصر بالعين الواحدة ما يبصر بالاثنتين، وأما السمع فيسأل عنه، فإن كان يسمع بالواحدة ما يسمع بالاثنتين فهو كالبصر .

                                                                                                                                                                                        واختلف في أشراف الأذنين إذا ذهبا بانفرادهما دون السمع، فقال مالك: إذا اصطلمتا فتشدختا فيهما حكومة ، ومثله لو أبانهما.

                                                                                                                                                                                        وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: عن مالك روايتان: إحداهما الدية، والثاني الحكومة . لأن العمامة تسترهما، وهو أحسن وأمرهما أيسر من محاجر العينين.

                                                                                                                                                                                        وقد قال مالك: فيهما حكومة. وقال محمد: وإن قطع من أشرافهما ما أذهب بعض السمع وإن قل فليس له إلا بقدر ما أذهب من السمع ولا شيء [ ص: 6381 ] له فيما اصطلم منهما. وقال مالك في العتبية: له بقدر ما ذهب من السمع، وفي عقل ما أصيب من الأذن اجتهاد. وقيل: إن ذهب جميع السمع واصطلمتا ففي ذلك دية واحدة . ولم أر في ذلك خلافا.

                                                                                                                                                                                        وقال الشيخ أبو القاسم ابن الجلاب: القياس أن يكون في السمع الدية وفي أشرافهما دية أو حكومة . يريد: أنه يكون فيهما ما كان يكون فيهما لو قطعتا دون السمع على الاختلاف فيهما هل تكون فيهما دية أو حكومة.

                                                                                                                                                                                        وإن رد أذنيه بعد أن قطعتا فثبتتا أو قلعت سنه فردها فثبتت أو نبتت في مكانها أخرى، فإن كان القطع والقلع عمدا كان فيهما القصاص قولا واحدا.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الخطأ في السن وفيما أشبهه مما فيه دية مسماة، فقال ابن القاسم في المدونة في السن: له ديتها .

                                                                                                                                                                                        قال محمد: وليس السن عند ابن القاسم كغيرها; لأنه يرى فيها ديتها وإن ثبتت قبل أن يأخذ عقلها إن كان خطأ، قال: وقال أشهب: ذلك مثل غيره من الجراح لا شيء له، قال: وكذلك لو ردها فثبتت لم يكن له شيء إلا أن يكون قد أخذ لذلك عقلا فلا يرده إلا أن يكون عمدا ففيه القصاص بكل حال .

                                                                                                                                                                                        واتفقوا في الأربع -الموضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة- في الخطأ أن فيها ديتها وإن عادت لهيئتها، وفرق بين العمد والخطأ; لأن القصاص من [ ص: 6382 ] العمد في الجراح إنما يعتبر ما هو عليه وهو هيئته يوم الجرح وقياسه يومئذ، وفي الخطأ إنما يراعى ما يكون بعد البرء، فإن برئ على غير شين لم يكن له شيء ولا خلف في هذين القسمين. وإذا كان ذلك وجب القصاص في الأذن والسن وإن عادت لهيئتها; لأنه الحكم يوم كان الجرح، ويسقط حكم الخطأ عند أشهب كالذي برئ من الجرح على غير شين، ورأى ابن القاسم أن في السن ديتها قياسا على الأربع الجائفة وأخواتها وكذلك كل ما كان فيه دية مسماة .

                                                                                                                                                                                        ويختلف على هذا في أشراف الأذنين إذا ردهما وكان القطع خطأ، فعلى القول أن فيهما حكومة لا يكون له فيه شيء، وعلى القول أن فيهما الدية تكون له الدية كالسن، ولو ضرب رجل الأذن أو العين فصم أو عمي ثم عاد إليه سمعه أو بصره لم يكن له أن يقتص في العمد ولا دية له في الخطأ، وإن كان فيهما دية مسماة بخلاف السن; لأنه لم يذهب سمعه ولا بصره في الحقيقة، ولو ذهب ما عاد، وإنما محمل ذلك على أنه عرض في الأذن سدد وما أشبه ذلك، وفي العين ماء حال بين نفوذ نور العين فلما ذهب العرض سمع هذا وأبصر هذا الآخر بما كان خلق به من أول، وكذلك العقل إذا ذهب ثم عاد لم يكن فيه قصاص في العمد ولا دية في الخطأ. [ ص: 6383 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا أخذ عقل العين قبل أن يعود نورها ثم عاد، فقال ابن القاسم في المدونة: يرد ما أخذ ، وقال أشهب في كتاب محمد: لا يرد ذلك إذا كان أخذه بعد أن أبانها وتلفت في حقيقتها ولعل ذلك بقضاء إمام عدل ثم رد الله تعالى لعبده نعمة بصره، وقد سألت مالكا عن رجل طرحت سنه فأخذ ديتها ثم ثبتت أيرد ما أخذ إلى طارحها، فقال: لا، قال محمد: وقاله ابن القاسم في السن وليست السن عنده كغيرها; لأنه يرى فيها ديتها وإن ثبتت قبل أن يأخذها .

                                                                                                                                                                                        فساوى أشهب بين العين والسن في أنه لا يرد شيئا، وفرق ابن القاسم بينهما ورأى أنه يرد في العين ولا يرد في السن، والوجه عنده ما تقدم، أن ذهاب البصر لم يكن حقيقة، ولو لم يأخذ ذلك حتى عاد نورها لم يأخذ شيئا، وزوال السن قد كان متحققا، ولو لم يأخذ ذلك حتى عادت لقضي له به.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: ولو رد ذلك المستقاد منه في الأذن والسن فثبتت له ولم تثبت للأول رأيت لصاحب السن والأذن عقلهما ، ولم نر له أن يقتص منه ثانية; لأن حق الأول كان بشيئين: وجود الألم وذهاب ذلك السن، وقد كان وجود الألم بالقطع، فلو قطع ثانية كان قد وجد الألم مرتين، فجاز له الدية دون معاودة القصاص. والقياس أن يكون له أن يقطعه ثانية; لأن وجود الألم تبع والعمدة وجود الشين والمثلة بذهاب ذلك منه كالأول ولأن من حق الأول أن [ ص: 6384 ] يمنعه من إعادة ذلك ليكون بين الناس ممثلا به كالأول، وإذا كان له منعه وكان متعديا في إعادة ذلك كان له إزالة ما تعدى فيه.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في المدونة فيمن كسر أنف رجل خطأ: فإن برئ على غير عثل فلا شيء فيه، وإن برئ على عثل كان فيه الاجتهاد، وإن كان عمدا اقتص منه، فإن برئ المقتص منه على مثل جرح الأول أو أكثر فلا شيء على الأول، كان برئ الأول على عثل وبرئ المقتص منه على غير عثل أو على عثل دون الأول كان للأول حكومة بقدر ما زاد شينه مثل اليد .

                                                                                                                                                                                        قال في الموطأ : ولو مات الثاني لم يكن على المستقاد له شيء . يريد: إذا كان القود بمثل الأول، ولو غلظ على الثاني فمات منه لكانت الدية على الذي غلظ عليه. [ ص: 6385 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية