الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في زكاة الحرث ، والأصناف التي تجب فيها الزكاة ، ونصابها ، والقدر الذي يجب للمساكين فيها

                                                                                                                                                                                        الزكاة تجب فيما أخرجت الأرض إذا كان مقتاتا مدخرا أصلا للعيش غالبا ، وكان خمسة أوسق فصاعدا- العشر إذا كان بعلا ، أو يشرب بالعيون ، وما أشبه ذلك مما لا تتكلف فيه مؤنة . وإن كان مما يتكلف سقيه بالغرب ، أو بدالية ، أو سانية ، فنصف العشر . والأصل في ذلك قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون الآية [البقرة : 267] ، وقوله تعالى : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان ثم قال : وآتوا حقه يوم حصاده [الأنعام : 141] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة" اجتمع عليه الموطأ والبخاري ومسلم . وقال : "ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة" أخرجه مسلم ، وقال : "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر ، وما سقي بالنضح نصف العشر" أخرجه البخاري ومسلم . [ ص: 1072 ]

                                                                                                                                                                                        فأفادت هذه الآيات والأحاديث أربعة أشياء : وجوب الزكاة فيما أخرجت الأرض ، ومعرفة الجنس المزكى ، والنصاب ، والقدر المأخوذ للمساكين .

                                                                                                                                                                                        فأفادت الآية الأولى تعلق الزكاة بما أخرجت الأرض خاصة دون معرفة الجنس والنصاب ، وهو من باب المجمل . وأفادت الآية الثانية معرفة الجنس من تمر وزرع وغيرهما مما ذكر في الآية . وأفاد الحديث الأول معرفة النصاب ، وأحد الأصناف المزكاة وهو التمر . وأفاد الحديث الثاني معرفة وجوب الزكاة في الحب . وأفاد الحديث الثالث معرفة ما يعطى المساكين وهو العشر تارة ، ونصف العشر تارة . فأوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في شيئين : التمر والحب مبهما ، ولم يبين ذلك الحب ما هو ؟

                                                                                                                                                                                        واختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال ، فقال مرة : الزكاة تجب في القمح ، والشعير ، والسلت ، والعلس ، والأرز ، والذرة ، والدخن ، والقطنية ، وقال في كتاب محمد : كل ما كان من الحبوب يؤكل ويدخر ويخبز ففيه الزكاة . [ ص: 1073 ]

                                                                                                                                                                                        وقال في مختصر ابن عبد الحكم : كل حب يأكله الناس ويدخرونه ففيه الزكاة . وقال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد : يريد إذا كان أصلا للعيش . وقال أبو محمد عبد الوهاب : كل مقتات من الحبوب يدخر وما جرى مجراه ففيه الزكاة .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه - : ورد الحديث بزكاة التمر ، وهو أصل القوت وغالب العيش بالمدينة وسائر مدن النخيل . وقد أخرج مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أنه كان يأخذ لأهله من خيبر قوت سنة عشرين وسقا من شعير وثمانين وسقا من تمر" . وأتى الحديث في الحب غير مفسر ، فرده مالك مرة إلى ما يكون من العيش غالبا قياسا على التمرة وإنما يكون ذلك فيما يختبز ، ولا يجب على هذا زكاة القطنية ؛ لأنها لا تختبز إلا في الشدائد وعند الضرورات ، وليس ذلك الشأن فيها .

                                                                                                                                                                                        وممن ذهب إلى أن لا زكاة في القطنية : الحسن ، وابن سيرين ، والشعبي ، [ ص: 1074 ] وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح ، والثوري ، وابن المبارك ، ويحيى بن آدم ، وأبو عبيدة ، وعلى رواية ابن عبد الحكم لا تقتصر الزكاة على ما ذكره عنه ابن القاسم ، بل تجب على كل بلد فيما يكون عندهم من ذلك مقتاتا أصلا للعيش ؛ فمن ذلك : التين . قال أبو الحسن ابن القصار : يرجح فيه قول مالك ، قال : وإنما تكلم على بلده ولم يكن التين عندهم ، وإنما كان يجلب إليهم ، وأما بالشام وغيرها ففيه الزكاة ؛ لأنه مقتات عندهم غالبا كما يقتات السمسم والتمر بالعراق . انتهى قوله .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه - : وكذلك كثير من أرياف الأندلس ، هو عندهم أصل للعيش ، ويعولون عليه لأنفسهم ولعيالهم كما يعول أهل اليمن على التمر أو قريب منه ، فمن كان ذلك شأنهم وجبت عليهم فيه الزكاة . ومعلوم أن الاستعمال له والاقتيات به أكثر من الزبيب ؛ ولم يختلف المذهب أن الزكاة تجب في الزبيب ، وهو في التين عند من ذكرنا أبين .

                                                                                                                                                                                        والقول بوجوب الزكاة في القطاني أحسن ؛ لأنها تراد للاقتيات وإن كان غيرها أكثر ما يراد لذلك . وقولأبي محمد عبد الوهاب : "إنها تجب في [ ص: 1075 ] كل مقتات مدخر ليس بحسن ، إلا أن يكون أصلا للعيش ، وهذا هو الفرق بين ما تجب فيه الزكاة ، وبين ما يحرم فيه التفاضل ولا تجب فيه الزكاة ، كالجوز واللوز وما أشبه ذلك ؛ لأنه وإن كان مقتاتا مدخرا فإنه لا تجب فيه الزكاة ؛ لأنه ليس أصلا للعيش .

                                                                                                                                                                                        واختلف فيما كان يدخر ويراد للتفكه . فقال مالك وابن القاسم : لا زكاة في ذلك . وقال عبد الملك بن الماجشون في كتاب ابن حبيب : تجب الزكاة في الثمار كلها ذوات الأصول ، ما ادخر منها وما لم يدخر ؛ لقول الله -عز وجل- : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات . وقال : وآتوا حقه يوم حصاده [الأنعام : 141] ، قال : فعم الثمار كلها .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه - : فيلزمه أن يقول : إنها تجب في غير ذوات الأصول ؛ لقول الله سبحانه : وغير معروشات ، والمذهب على أن الزكاة تجب فيما لا يدخر ويتفكه ، إذا كان عامة ذلك الجنس الادخار : كالبلح وهو مما يتفكه وليس بمقتات ولا مدخر ، فجعل فيه الزكاة ؛ لأن الغالب من ثمر النخل الادخار ، فألحق القليل [ ص: 1076 ] بحكمه . وعلى القول أن الأتباع مراعاة في نفسها لا يزكى ؛ لأنه ليس مما في الحديث ولا أصلا للعيش ، وكذلك العنب الشتوي هو تفكه .

                                                                                                                                                                                        وتجب الزكاة فيما يزهي من النخل ، وإن كان لا يتمر ؛ لأنه مما هو أصل للعيش . والاختلاف ، هل تجب الزكاة بنفس الزهو وقبل أن يصير تمرا ؟

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية