الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل من تجب عليهم زكاة الفطر

                                                                                                                                                                                        أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر على الحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى ، والصغير ، والكبير . وروي عنه أنه قال : "عمن تمونون" وليس إسناده بذلك .

                                                                                                                                                                                        وإخراج الرجل زكاته عن يمونه على ثلاثة وجوه : واجبة ، وساقطة ، ومختلف فيها . فتجب عليه عمن تلزمه نفقته من الأحرار ، وهم خمسة : الابن ، والبنت ، والأم ، والأب ، والزوجة . ولو استأجر حرا بطعامه لم يلزمه [ ص: 1103 ] إخراجها عنه ، ولم يدخل في عموم الحديث ؛ لأن هذه مبايعة ، باع منافعه بطعامه ، فليس عليه سوى ما تبايع به .

                                                                                                                                                                                        واختلف في الزوجة ، فقال مالك وابن القاسم : على الزوج أن يؤدي عنها زكاة الفطر ، وقال ابن أشرس : تؤدي من مالها عن نفسها وعن رقيقها ، ورأى أن نفقته عليها من باب المعاوضة ، وهي عوض عن الاستمتاع .

                                                                                                                                                                                        ويفترق الجواب في إخراجها عن عبيده على نحو ما تقدم فيمن تلزمه نفقته من الأحرار ، فيخرجها عن كل عبد في يديه وتحت قهره ، ولم يتعلق به حق لغير سيده ، وسواء كان العبد ليس فيه عقد حرية ، أو كان مدبرا ، أو أم ولد ، أو معتقا إلى أجل .

                                                                                                                                                                                        واختلف في المكاتب ، والمعتق بعضه ، والمخدم ، ومن جنى جناية فمر يوم الفطر قبل تسليمه ، وتسقط عمن أبق فأيس منه ، أو أسر أو غصب ويحتج في الغصب ، فلا يرجو انتزاعه ، ويلزم إخراجها عمن هو في ملك غيره كعبد الأب ، والأم إذا كانا فقيرين ولا غنى بهما عنه . واختلف في عبد الابن ، والابنة ، والزوجة قبل الدخول ، والمخدم ولا يلزم إخراجها عن عبده الكافر ، ولا عن عبد عبده وإن كان مسلما .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في المدونة : يخرج السيد عن عبده المكاتب زكاة الفطر ، وقيل : لا شيء على السيد ، ولا على العبد . وهو أبين ؛ لأن السيد قد باعه نفسه ، وإنما [ ص: 1104 ] له الآن عليه مال ولم يعجز . وقال مالك في المدونة في المعتق بعضه : يؤدي السيد عنه بقدر ما له فيه ، ويسقط ما ناب العتق .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب : على السيد بقدر ما له فيه ، وعلى العبد بقدر ما عتق منه ؛ وقال مالك في المبسوط مثل ذلك ، وقال عبد الملك في كتاب محمد : على المتمسك بالرق جميع ذلك ، وقال محمد بن مسلمة في المبسوط : يؤدي السيد بقدر ما له فيه والعبد بقدر ما عتق منه ، بمنزلة إذا جرح فإن لم يكن للعبد مال زكى السيد جميع ذلك ؛ قال : لأنه لا يخرج نصف صاع .

                                                                                                                                                                                        فأسقط في القول الأول عن العبد ما ينوب العتيق ؛ لأنه في ذلك الجزء على أحكام العبيد في الجراح وفي الميراث ، وألزم في القول الثاني أن يخرج عن نفسه عن الجزء العتيق ؛ لأن مؤنته في ذلك الجزء على نفسه ، وقد جعلت زكاة الفطر تابعة للنفقة في غير موضع ، ولأن له في ذلك الجزء حكم نفسه يتجر لنفسه ويصون ماله ، والجناية عليه : يؤخذ ما يخص ذلك الجزء دون من له الرق ، والجناية منه : يؤدي من ماله ما يخص ذلك الجزء العتيق ، والجناية والموت والموت أمر طارئ ، وألزم السيد في القول الثالث جميع الزكاة قياسا على الميراث ؛ لأنه لو مات كان له جميع ميراثه . وقول أشهب أقيس . [ ص: 1105 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف في المخدم على ثلاثة أقوال : فقال ابن القاسم في المدونة : زكاته على من له الرقبة ، وقال في كتاب محمد : على من له الخدمة . وقال عبد الملك ابن الماجشون : إن قلت الخدمة فعلى السيد .

                                                                                                                                                                                        واختلف في نفقته هل هي على السيد ، أو على المخدم ؟ فمن جعلها على السيد جعل الزكاة عليه ؛ لأنه اجتمع فيه وجهان : الملك والنفقة ، ولا يختلف في ذلك ؛ وإنما يدخل الاختلاف على القول : إن النفقة على من له الخدمة ، فجعلت مرة على من عليه النفقة ، وإن كان الملك لغيره ؛ لظاهر الحديث : "عمن تمونون" .

                                                                                                                                                                                        وكونها على المالك أحسن .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد : هو بمنزلة عبد يستأجر بنفقته ، وعلى هذا يجري الجواب : إذا أوصى بخدمة عبده لرجل ، وأبقى الرقبة لورثته ، وكذلك إذا أوصى بالخدمة لرجل والمرجع لآخر ، وجعل له المرجع من الآن ، فقيل : النفقة على من له المرجع ؛ وعلى هذا تكون الزكاة عليه ؛ لأنه قد اجتمع فيه وجهان : الرقبة والنفقة لواحد وقيل : تكون النفقة على من له الخدمة ، وعلى هذا يختلف هل تكون الزكاة على المخدم تابعة للنفقة ، أو على من له المرجع ؟

                                                                                                                                                                                        وإن جعل المرجع للموصى له بعد انقضاء الخدمة ، وأبقى الرقبة ما بينه وبين انقضاء الخدمة على ملك الورثة ، عاد الخلاف المتقدم في النفقة والزكاة [ ص: 1106 ] بين الورثة والمخدم ، ولا شيء على الموصى له برقبة ؛ لأنه لا شيء له فيه من الآن وميراثه إن مات ، وقيمته إن قتل للورثة ، ولو جعل له رقبته من الآن لكان ميراثه وقيمته للموصى له به .

                                                                                                                                                                                        والزكاة على العبد المرهون على سيده ؛ لأنه على ملكه وفي نفقته . وإذا كان لكل واحد من الأبوين خادم ، ولا غنى بهما عنهما وهما فقيران ، كان على الابن الإنفاق عليهما والزكاة عنهما إذا لم تكن الأم في عصمة الأب ، وإن كانت في عصمته وكانا يستغنيان بخادم الأب عن خادم الأم ، كان على الابن الإنفاق على الأبوين وعلى خادم الأب دون خادم الأم ، والزكاة عنهم دون خادم الأم ، وإن كانا يستغنيان بخادم الأم عن خادم الأب لم يكن عليه الإنفاق على الأبوين ولا على خادميهما ؛ لأن الأب موسر بالخادم وعليه أن يبيعها وينفق ثمنها على نفسه وعلى زوجته وخادمها ؛ فإذا نفد ثمنها عادت النفقة على الأبوين والخادم على الولد .

                                                                                                                                                                                        والولد يكون له الخادم على مثل ذلك ، فإن كان الولد في غنى عن ذلك الخادم لكونه في جملة الأب وفي عياله لم يلزم الأب النفقة على الولد ولا على خادمه ؛ لأنه موسر بثمن الخادم ، إلا بعد نفاد ثمنه ، وإن لم تكن له مندوحة عنه كان على الأب الإنفاق عليهما والزكاة عنهما . وقد اضطرب في هذه المسألة .

                                                                                                                                                                                        وإن تزوجت البكر على خادم بعينها وقبضتها ، فإن لم تكن لها مندوحة [ ص: 1107 ] عنها كانت كخادمها التي لم تتزوج ما ، فإن كانت في غنى عنها كانت زكاة الابنة على الأب ، وكانت زكاة الجارية على الابنة ، فلا تسقط عن الأب النفقة لمكان الخادم ؛ لأن من حق الزوج أن لا تباع للإنفاق على الابنة لما كانت صداقها ، وكذلك سائر الصداق لا يسقط به الإنفاق عن الأب ، وإن كانت الابنة فقيرة ليس لها ما تزكي منه عنها كان في المسألة قولان : أحدهما أن الزكاة ساقطة عنها ، والآخر : إنها واجبة ، ويباع من الأمة بقدر ذلك ، إلا أن يشاء الزوج أن يزكي عنها .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا دعي الزوج إلى الدخول فامتنع ولزمه الإنفاق على زوجته ، فقال ابن القاسم في المدونة : يزكي عن خادمها . وقال ابن الماجشون في مختصر ما ليس في المختصر : ليس ذلك عليه إلا بعد الدخول ؛ لأن الخادم بعد الدخول تخدمهما جميعا ، ولم يختلف في المدخول ما فيما أعلمه أن عليه أن يزكي عن خادمها إذا كانت ممن يجب عليه أن يخدمها ، لما كان عليه أن يأتي بخادم تخدمها ويزكي عنها . وقد خفف عنه الشراء ، ولعله لو لم تكن لها خادم لاشتراها ولم يستأجر . [ ص: 1108 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية