الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب ما يجوز للمحرم قتله ، من الصيد وللحلال في الحرم .

                                                                                                                                                                                        قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفارة والكلب العقور" . وقال : " خمس فواسق يقتلن في الحرم . . ." فذكر الخمس المتقدمة . اجتمع على هذين الحديثين الموطأ والبخاري ومسلم . فنص الحديث الأول على ما يحل للمحرم ، والثاني على الحلال في الحرم ، وزاد مسلم : "الحية" . وقال أبو مصعب يقتل المحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور حسب ما في الحديث .

                                                                                                                                                                                        ولا خلاف في العقرب والحية والفأرة والكلب العقور . واختلف المذهب في الغراب والحدأة ، فأجاز أبو مصعب قتلهما ، وقد تقدم قوله . [ ص: 1304 ]

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في كتاب محمد : لا أحب للمحرم أن يقتلهما حتى يؤذياه ، ولو قتلهما قبل أن يؤذياه لم يكن فيهما جزاء . وقال مالك في المختصر : لا يقتلان في الحرم خوف الذريعة للاصطياد ، إلا أن يؤذياه . وقال أشهب : إن قتلهما من غير اضطرار وداهما . والأول أصوب للحديث ، وقد يحمل قول أشهب في المنع لظاهر القرآن ؛ لأنهما من الصيد . وقد اختلف هل يخص القرآن بخبر الواحد ؟

                                                                                                                                                                                        واختلف في العقرب والفأرة هل هما من الصيد ؟ فقال أبو محمد عبد الوهاب : للمحرم قتل السباع العادية المبتدئة بالضرر ، ولا جزاء عليه فيها . فذكر الأسد والذئب والنمر والفهد ، ومن الطيور الغراب والحدأة ، قال : وأما الكلب العقور والحية والعقرب والزنبور فله قتله بغير معنى الصيد . انتهى قوله . قاله عند غير واحد من أهل العلم ، وأما غير هذين من سباع الطير ، فلا يقتلهما ابتداء لعدم النص فيه . قال مالك : فإن فعل فعليه الفدية ، إلا أن يبتدئه بإيذاء ، فلا شيء عليه . قال ابن القاسم : وكذلك لو أن رجلا عدا على رجل يريد قتله ، فدفعه عن نفسه فقتله ؛ لم يكن عليه شيء . قال أشهب في [ ص: 1305 ] كتاب محمد : عليه الجزاء ، وإن كان ابتدأته . يريد : إذا كان قادرا على أن يصرفها بغير قتل .

                                                                                                                                                                                        وقول ابن القاسم أحسن ألا شيء عليه ؛ قياسا على الغراب والحدأة لما كان شأنهما الإيذاء ، فكذلك ما كان منه أذى من غيرهما .

                                                                                                                                                                                        واختلف في المراد بالكلب العقور ، فقول مالك في الموطأ : أنها السباع والأسد والنمر والفهد . فحمل الحديث على الكلب الوحشي . وظاهر قول أشهب : أنه الكلب الإنسي ؛ لأنه قال : يقتل الكلب ، وإن لم يعقر .

                                                                                                                                                                                        وقال أبو محمد عبد الوهاب : للمحرم قتل الكلب العقور والحية والفأرة بغير معنى الصيد . قال : وليس من ذلك الصقر والبازي ، ولا القرد ولا الخنزير ، إلا أن يبتدئ شيء من ذلك بالضرر . انتهى قوله . وقال مالك في كتاب محمد : ولا يقتل المحرم قردا ولا خنزيرا . قال ابن القاسم : لا وحشيا ولا أهليا ولا خنزير الماء . قال مالك : وفدى ذلك كله .

                                                                                                                                                                                        ووقف محمد في خنزير الماء . قال : ولا شيء في الضفدع . قال أشهب : [ ص: 1306 ]

                                                                                                                                                                                        وقيل يطعم شيئا .

                                                                                                                                                                                        وسئل مالك : أيقتل المحرم الوزغ ؟ فقال : لا ؛ لأنها ليست من الخمس الفواسق التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلهن ، ولو أرخص للناس في هذا ؛ لزادوا فيه عددا كثيرا ، وإنما الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خمس . . ." . قال : ويقتل في الحرم إن كان حلالا ، ولو لم يقتل في الحرم ؛ لكثرت وغلبت وأما المحرم فشأنه يسير . فمنعه المحرم من قتل الوزغ دليل على أنه رأى أن العقرب والفأرة من الصيد ، وأنهما استثنيا من الصيد ، ومنع من قتلهما حماية ؛ لئلا يتذرع الناس إلى قتل الصيد .

                                                                                                                                                                                        والقياس أن يلحق بالعقرب والفأرة ، وقد ورد في الحديث الحث على قتلهما ، ولولا أن شأنهما الإيذاء لم يحض على ذلك ؛ لأنه لا يجوز إتلاف نفس الحيوان لغير علة ، وذلك من السرف ، ولولا أن شأنهما الإيذاء لم يجز قتلهما للحلال في الحرم .

                                                                                                                                                                                        ومنع من قتل الخنزير البري بخلاف السباع ، وإن كان لا يجوز أكله ؛ لأنه ليس من شأنه أن يعدو .

                                                                                                                                                                                        وقال : وتقتل العقرب والفأرة صغارها وكبارها . وقال ابن القاسم في صغار السباع والنمور إن كانت لا تفترس : فلا ينبغي أن تقتل . قال في [ ص: 1307 ] كتاب محمد : وإن قتلت ؛ فلا شيء عليه . وقال أشهب في كتاب محمد : ما كان من كبار السباع ، فإنه تقتل صغارها مع كبارها وكذلك الحية والعقرب والفأرة ، صغارها وكبارها سواء . وقال : إن قتل غرابا وحدأة أو صغار السباع على غير إضرار ولا أذى ؛ فعليه جزاؤه . فقال في الأول : كبار السباع يقتل صغارها وكبارها . يريد : في الصنف الذي هو كباره ، كالأسد والنمر والفهد ، فصغاره وكباره سواء .

                                                                                                                                                                                        والصنف الذي هو من صغار السباع ، كالثعلب والضبع ، صغارها وكبارها سواء إن قتلها ابتداء وداها ، وإن قتلها بعد أن آذته ؛ فلا شيء عليه . وكره مالك قتل سباع الطير ، فإن فعل وداها . قال ابن القاسم : فإن عدى عليه شيء منها ، فخافه على نفسه فقتله ؛ فلا جزاء عليه . وقال أشهب في كتاب محمد : عليه الجزاء ، بخلاف من قتل سباع الطير .

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن ؛ لأنها إذا عدت ، صارت كالغراب والحدأة .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية