الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في أمان المسلمين لأهل الحرب

                                                                                                                                                                                        لا يخلو الأمان من سبعة أوجه :

                                                                                                                                                                                        إما أن يكون من أمير الجيش ، أو من رجل من الجيش وهو حر مسلم ، أو ممن لم يتوجه عليه الجهاد : كالمرأة والعبد والصبي ، أو من كافر في الجيش ، أو من سرية خرجت من الجيش ، أو من سرية من أرض الإسلام بأمر الأمير ، أو من غير إذن الأمير .

                                                                                                                                                                                        فأما الجيش فالأمان فيه إلى أمير الجيش دون من معه من الجند والعرائف وغيرهم ، وهو الناظر للمسلمين فيما يراه صوابا بعد الاجتهاد ومشاورة من معه من ذوي الرأي ، فما عقده جاز ولزم الوفاء به .

                                                                                                                                                                                        فإن جعل لهم الأمان على أن يرحل عنهم ، أو على أنهم آمنون إلى مدة معلومة ، وكان ذلك بمال أو بغير مال ، أو على أن يخرجوا إليه على أنهم آمنون من القتل خاصة ويسترقهم ، أو على أن يضرب عليهم الجزية ولا يسترقهم ، أو على أن يأخذ أموالهم خاصة ولا يعرض في غير ذلك من أنفسهم أو يأخذ أموالهم وأبناءهم أو بعض ذلك فهو عقد جائز لازم .

                                                                                                                                                                                        وأجاز محمد إذا وقع ذلك من غير أمير الجيش فيكون أمانا لهم من ذلك الجيش ، ولا يكون أمانا على ألا يغزوهم أحد .

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن ، وليس لواحد أن يعقد على الأمير وعلى الجيش أن يرحلوا عنهم ، وكذلك إن أمن واحد من الجيش واحدا من أهل الحصن ، فعلى قول [ ص: 1439 ] محمد يمضي عقده .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب : لا ينبغي لأحد من أهل الجيش أن يؤمن أحدا غير الإمام وحده ، ولذلك قدم ، وينبغي أن يتقدم إلى الناس في ذلك ، ثم إن أمن أحد أحدا قبل نهيه أو بعده فالإمام مخير : إما أمنه ، أو رده إلى مأمنه .

                                                                                                                                                                                        وقال في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يجير على المسلمين أدناهم " : إن الدني من حر أو عبد أو امرأة أو صبي يعقل الأمان يجوز أمانهم ، وليس للإمام ولا غيره أن يغدر به ، ولكن يوفي له ذلك ، أو يرده إلى مأمنه .

                                                                                                                                                                                        قال ابن سحنون : إذا أمن المسلم قوما من أهل الحرب فهم آمنون ، ولكن ينظر الإمام : فإما أتم ذلك ، وإما ينبذ إليهم .

                                                                                                                                                                                        واتفق ابن حبيب وابن سحنون أن عقده على الإمام وعلى الناس لا يلزمه ، وإنما هو آمن حتى ينظر في ذلك .

                                                                                                                                                                                        واختلف في أمان المرأة والعبد والصبي إذا كان يعقل الأمان : فقال ابن القاسم : ذلك جائز وهو آمن . وقد تقدم قول ابن حبيب أنه آمن حتى يرى [ ص: 1440 ] الإمام رأيه .

                                                                                                                                                                                        وذكر أبو الفرج عن عبد الملك أنه قال : ليس إجارة المرأة إجارة ، ولا يكون أمنا .

                                                                                                                                                                                        وروى معن عن مالك أنه قال في الرجل من الجيش يؤمن الرجل والرجلين بغير أمر الإمام : فذلك جائز . قيل : فالعبد ؟ قال : لا .

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون : ليس أمان الصبي بأمان ، إلا أن يجيزه للقتال ، ويصير له سهم ، فالإمام مخير : إما أجاز أمانه ، أو رده ، فأما إن لم يجزه للقتال فأمانه باطل .

                                                                                                                                                                                        وأرى أن أمان كل هؤلاء أمان ؛ فلا يقتل من أمنوه ، ولا يسترق ، والنظر فيه للإمام ، فإن رأى أن يجيز له ما عقده ، وإلا رده إلى مأمنه .

                                                                                                                                                                                        واختلف في الأمان بعد الفتح وبعد أن توجه الأسر والقتل ، فقال ابن المواز فيمن أعطى أسيرا أمانا : سقط عنه القتل . يريد : ولا يسقط الاسترقاق

                                                                                                                                                                                        وقال ابن سحنون عن أبيه : لا يحل لمن أمنه قتله ، والإمام يتعقب ذلك : فإن رأى ذلك نظرا أمضاه وصار فيئا ، وإن رأى قتله أصلح قتله ؛ لأنه أمن بعد أن صار أسيرا وفيئا . وهذا أحسن .

                                                                                                                                                                                        وفي مثل هذا جاء أن أم هانئ - رضي الله عنها - أمنت بعد الفتح ؛ فلم يكن أمانها أمانا [ ص: 1441 ] إلا بإجازة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" . ولو كان إجارتها لازمة لم يقل : أجرنا . ولكان الجوار منها وحدها دون غيرها .

                                                                                                                                                                                        قال ابن الماجشون وسحنون : إنما تم أمانها بإجازة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                        قال سحنون : وإن أمضاه كان فيئا .

                                                                                                                                                                                        وأرى أن مضمون الأمان في النفس ألا يقتل ، ولو كان أمانا لمن حصن لكان ألا يباح بقتل ولا بغيره ، إلا أن يبين أن ذلك في النفس دون المال أو غير ذلك .

                                                                                                                                                                                        وإن بعث أمير الجيش سرية إلى موضع وجعل لهم أن يعقدوا ما رأوه صوابا من هدنة أو غيرها جاز ، وإن جعل لهم القتال والسبي إن لم يسلموا لم يكن لهم أن يعقدوا ذلك ، فإن فعلوا كان النظر لأمير الجيش : فإن رأى إمضاء ذلك ، وإلا أعلمهم أنه لا عقد لهم ، ويستأنف الأمر معهم .

                                                                                                                                                                                        وإن جعل لهم أن يعقدوا ما رأوه من هدنة أو مال أو سبي ففعلوا ، ثم جاءت سرية أخرى : فإن كانت من الجيش الذي كانت منه السرية الأولى لم [ ص: 1442 ] يكن لهم نقض شيء مما عقدته الأولى ، وكذلك إن لم يكونوا من ذلك الجيش ، ولكنهم من ذلك البلد الذي خرجت منه الأولى ، وإن كانت من بلد آخر وأمير آخر ، ولا يرجعان إلى أمير واحد فوقهما كان لهم أن يقاتلوهم ، وعلى أصل سحنون : ليس ذلك لهم .

                                                                                                                                                                                        وإن كانت السرية من أرض الإسلام وبأمر أمير البلد الذي خرجت منه الأولى كان حكمها بمنزلة ما لو خرجت من الجيش . وإن خرجت بغير إذن الإمام لم يلزمه ما عقدت . [ ص: 1443 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية