ونحن الآن نعبر بعبارة وجيزة عن آخرها وغايتها يفهمها من عرف منطق الطير ويجحدها من عجز عن الإيضاع : في السير فضلا عن أن يجول في جو الملكوت جولان الطير ، فنقول : إن الله عز وجل في جلاله وكبريائه صفة عنها يصدر الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادي إشراقها فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس لا لغموض في نور الشمس ، ولكن لضعف في أبصار الخفافيش فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادي حقائقها شيئا ضعيفا جدا ، فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا : عنها يصدر الخلق والاختراع ثم الخلق ينقسم في الوجود إلى أقسام وخصوص صفات ، ومصدر انقسام هذه الأقسام واختصاصها بخصوص صفاتها صفة أخرى استعير لها بمثل الضرورة التي سبقت عبارة المشيئة فهي توهم منها أمرا مجملا عند المتناطقين باللغات التي هي حروف وأصوات المتفاهمين بها وقصور لفظ المشيئة عن الدلالة على كنه تلك الصفة وحقيقتها كقصور لفظ القدرة ، ثم انقسمت الأفعال الصادرة من القدرة إلى ما ينساق إلى المنتهى الذي هو غاية حكمتها وإلى ما يقف دون الغاية ، وكان لكل واحد نسبة إلى صفة المشيئة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها تتم القسمة والاختلافات فاستعير ، لنسبة البالغ غايته عبارة المحبة ، واستعير لنسبة الواقف دون غايته عبارة الكراهة ، وقيل : إنهما جميعا داخلان في وصف المشيئة ولكن لكل واحد خاصية أخرى في النسبة يوهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمرا مجملا عند طالبي الفهم من الألفاظ واللغات ، ثم انقسم عباده الذين هم أيضا من خلقه واختراعه إلى من سبقت له المشيئة الأزلية أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها ، ويكون ذلك قهرا في حقهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم ، وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته إلى غايتها في بعض الأمور فكان ، لكل واحد من الفريقين نسبة إلى المشيئة خاصة فاستعير لنسبة المستعملين في إتمام الحكمة بهم عبارة الرضا ، واستعير للذين استوقف بهم أسباب الحكمة دون غايتها عبارة الغضب ، فظهر على من غضب عليه في الأزل فعل وقفت الحكمة به دون غايتها فاستعير له الكفران ، وأردف ذلك بنقمة اللعن والمذمة زيادة في النكال وظهر على من ارتضاه في الأزل فعل انساقت بسببه الحكمة إلى غايتها فاستعير له عبارة الشكر وأردف بخلعة الثناء والإطراء زيادة في الرضا والقبول والإقبال ، فكان الحاصل أنه تعالى أعطى الجمال ثم أثنى وأعطى النكال ثم قبح وأردى وكان مثاله أن ينظف الملك عبده الوسخ عن أوساخه ثم يلبسه من محاسن ثيابه فإذا تمم زينته قال يا جميل ما أجملك ، وأجمل ثيابك ، وأنظف وجهك ، فيكون بالحقيقة هو المجمل وهو المثني على الجمال فهو المثنى عليه بكل حال ، وكأنه لم يثن من حيث المعنى إلا على نفسه ، وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر والصورة ، فهكذا كانت الأمور في أزل الأزل ، وهكذا لله تعالى صفة هي القدرة ، ولم يكن ذلك على اتفاق وبحث ، بل عن إرادة وحكمة وحكم حق وأمر جزم استعير له لفظ القضاء وقيل : إنه كلمح بالبصر أو هو أقرب لفاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء الجزم بما ، سبق به التقدير ، فاستعير لترتب آحاد المقدورات بعضها على بعض لفظ القدر فكان لفظ القضاء بإزاء الأمر الواحد الكلي . تتسلسل الأسباب والمسببات بتقدير رب الأرباب ومسبب الأسباب