وقد قال الله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وأما قوله . الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر
وكقوله صلى الله عليه وسلم : شارب الخمر كعابد الوثن وأبدا المشبه به ينبغي أن يكون أعلى رتبة فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا يدل على أن الشكر مثله وهو كقوله عليه السلام الصبر نصف الإيمان فإن كل ما ينقسم قسمين يسمى أحدهما نصفا ، وإن كان بينهما تفاوت كما يقال : الإيمان هو العلم والعمل فالعمل هو نصف الإيمان فلا يدل ذلك على أن العمل يساوي العلم وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم الصوم نصف الصبر آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود لمكان ملكه ، وآخر أصحابي دخولا الجنة لمكان غناه عبد الرحمن بن عوف وفي خبر آخر يدخل سليمان بعد الأنبياء بأربعين خريفا وفي الخبر : أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر ، فإنه مصراع واحد ، وأول من يدخله أهل البلاء ، إمامهم أيوب عليه السلام وكل ما ورد في فضائل الفقر يدل على لأن الصبر حال ، الفقير والشكر حال الغني فهذا هو المقام الذي يقنع العوام ويكفيهم في الوعظ اللائق والتعريف لما فيه صلاح دينهم فضيلة الصبر
المقام الثاني هو البيان الذي نقصد به تعريف أهل العلم والاستبصار بحقائق الأمور بطريق الكشف والإيضاح فنقول فيه : كل أمرين مبهمين : لا تمكن الموازنة بينهما مع الإبهام ما لم يكشف عن حقيقة كل واحد منهما وكل مكشوف يشتمل على أقسام لا تمكن الموازنة بين الجملة والجملة ، بل يجب أن تفرد الآحاد بالموازنة حتى يتبين الرجحان
والصبر والشكر أقسامهما وشعبهما كثيرة فلا يتبين لحكمهما في الرجحان والنقصان مع الإجمال ، فنقول : قد ذكرنا أن هذه المقامات تنتظم من أمور ثلاثة : علوم وأحوال وأعمال والشكر والصبر وسائر المقامات هي كذلك وهى الثلاثة إذا وزن البعض منها بالبعض لاح للناظرين في الظواهر أن العلوم تراد للأحوال ، والأحوال تراد للأعمال ، والأعمال هي الأفضل وأما أرباب البصائر فالأمر عندهم بالعكس من ذلك فإن الأعمال تراد للأحوال والأحوال تراد للعلوم فالأفضل العلوم ثم الأحوال ثم الأعمال لأن كل مراد لغيره فذلك الغير لا محالة أفضل منه ، وأما آحاد هذه الثلاثة فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت إذا أضيف بعضها إلى بعض ، وكذا آحاد الأحوال إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد المعارف : وأفضل المعارف علوم المكاشفة وهي أرفع من علوم المعاملة ، بل علوم المعاملة دون المعاملة : لأنها تراد ، للمعاملة ، ففائدتها إصلاح العمل ، وإنما فضل العالم بالمعاملة على العابد إذا كان علمه مما يعم نفعه فيكون بالإضافة إلى عمل خاص أفضل وإلا فالعلم القاصر بالعمل ليس بأفضل من العمل القاصر فنقول : فائدة إصلاح العمل إصلاح حال القلب ، وفائدة ، فأرفع علوم المكاشفة معرفة الله سبحانه وهي الغاية التي تطلب لذاتها ، فإن السعادة تنال بها بل هي عين السعادة ، ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة ، وإنما يشعر بها في الآخرة فهي المعرفة الحرة التي لا قيد عليها فلا تتقيد بغيرها إصلاح حال القلب أن ينكشف له جلال الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله
وكل ما عداها من المعارف عبيد وخدم ، بالإضافة إليها فإنها إنما تراد لأجلها
ولما كانت مرادة لأجلها كان تفاوتها بحسب نفعها في الإفضاء إلى معرفة الله تعالى فإن بعض المعارف يفضي إلى بعض إما بواسطة أو بوسائط كثيرة ، فكلما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله تعالى أقل فهي أفضل وأما الأحوال فنعني بها أحوال القلب في تصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا ، وشواغل الخلق ، حتى إذا طهر وصفا اتضح له حقيقة الحق فإذا فضائل الأحوال بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتطهيره وإعداده : لأن تحصل له علوم المكاشفة وكما أن تصقيل المرآة يحتاج إلى أن يتقدم على تمامه أحوال للمرآة بعضها أقرب إلى الصقالة من بعض ، فكذلك أحوال القلب ، فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب هي أفضل مما دونها لا محالة بسبب القرب من المقصود وهكذا ترتيب الأعمال فإن تأثيرها في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال إليه وكل عمل ، إما أن يجلب إليه حالة مانعة من المكاشفة ، موجبة لظلمة القلب ، جاذبة إلى زخارف الدنيا وإما أن يجلب إليه حالة مهيئة ، للمكاشفة ، موجبة لصفاء القلب وقطع علائق الدنيا عنه ،
واسم الأول المعصية ، واسم الثاني الطاعة .