الآية السابعة قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } .
فيها أربع مسائل : المسألة الأولى : في تأويل الفتنة : فيها ثلاثة أقوال : الأول : الفتنة : المناكير ; نهى الناس أن يقروها بين أظهرهم فيعمهم العذاب ; قاله ابن عباس .
الثاني : أنها فتنة الأموال والأولاد ، كما قال : { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } رواه عبد الله بن مسعود .
وقد روى حذيفة في الحديث الصحيح حين سأله عمر عن الفتنة ، فقال له حذيفة : { فتنة الرجل في جاره وماله وأهله يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر } .
[ ص: 391 ] الثالث : أنها البلاء الذي يبتلى به المرء ; قاله الحسن .
المسألة الثانية : المختار عندنا : أنها فتنة المناكير بالسكوت عليها أو التراضي بها ، وكل ذلك مهلك ، وهو كان داء الأمم السالفة قال الله سبحانه : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } .
وقد قدمنا من تفسير قوله : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } .
أن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده .
وثبت أن أم سلمة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : { أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث } .
وقال عمر : إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة ، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحلوا العقوبة كلهم .
وتحقيق القول في ذلك أن الله قال : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } .
وقال : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فقد أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة ، وأنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد ، وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب ، بيد أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره ، فإذا سكت عنه فكلهم عاص ، هذا بفعله ، وهذا برضاه به .
وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل ; فانتظم الذنب بالعقوبة ، ولم يتعد موضعه ، وهذا نفيس لمن تأمله .
فإن قيل ، وهي : [ ص: 392 ]
المسألة الثالثة : فما معنى هذه الآية ؟ قلنا : هي آية بديعة ، ومعناها على الناس مرتبك ، وقد بيناها في قبس الموطأ ، وفي " ملجئة المتفقهين "
. لبابه أن قوله : ( اتقوا ) أمر .
وقوله : { لا تصيبن الذين ظلموا } نهي ، ولا يصلح أن يكون النهي جواب الأمر ، فيبقى الأمر بغير جواب ، فيشكل الخطاب .
والدليل على أن قوله : { لا تصيبن الذين ظلموا } نهي دخول النون الثقيلة فيه ، وهي لا تدخل إلا على فعل النهي ، أو جواب القسم .
ولا تظنوا أن إشكال هذه الآية حدث بين المتأخرين ; بل هو أمر سالف عند المتقدمين ، ولذلك قرأها قوم : واتقوا فتنة أن تصيب الذين ظلموا منكم خاصة .
وقرأها آخرون : واتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .
وهكذا يروى فيها عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وكان يقول ابن مسعود إذا قرأها : ما منكم من أحد إلا وله فتنة في أهله وماله .
وكان الزبير يقول : كنا نظنها لغيرنا فإذا بها قد أصابتنا .
وكذلك كان يرى ابن عباس .
وأما فتنة الرجل في أهله فلا تتعداه ، ولا تأخذ بالعقوبة سواه ، وإنما المعنى في الآية ما ذكرناه .
فأما اعتراضهم بالإعراب وهي :
المسألة الرابعة : فقد أوضحناها في الرسالة الملجئة وقلنا : فيها ثلاثة أقوال : الأول : أنه أمر ثم نهي ، كل واحد مستقل بنفسه ، كما تقول : قم غدا .
لا تتكلم اليوم .
الثاني : الإعراب اتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم .
فأما الأول فضعيف ; لأن قول : ( اتقوا فتنة ) ليس بكلام مستقل ، فيصح أن يتركب عليه غيره .
[ ص: 393 ] وأما الثاني ، وهو جواب الطبري ، فلا يشبه منزلته في العلم ; لأن مجازه : لا تصيب الذين ظلموا ، ولم يرد كذلك .
الثالث : قال لنا شيخنا أبو عبد الله النحوي : هذا نهي فيه معنى جواب الأمر ، كما يقال : لا تزل من الدابة لا تطرحنك ، وقد جاء مثله في القرآن : { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده } .
وهذا منتهى الاختصار وقد طولناه في مكانه .


