المسألة الثانية وفيه دليل الإعجاب بحسن الصوت ، وقد روى قال : { عبد الله بن مغفل } ، واستحسن كثير من فقهاء الأمصار رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به ، وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة وهو يرجع ، ويقول آه ، وكرهه القراءة بالألحان والترجيع . وهو جائز { مالك أبي موسى للنبي عليه السلام : لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا } ; يريد لجعلته لك أنواعا حسانا ، وهو التلحين ، مأخوذ من الثوب المحبر ، وهو المخطط بالألوان . لقول
وقد سمعت تاج القراء ابن لفتة بجامع عمرو يقرأ : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } .
فكأني ما سمعت الآية قط .
وسمعت ابن الرفاء وكان من القراء العظام يقرأ ، وأنا حاضر بالقرافة : فكأني ما سمعتها قط .
وسمعت بمدينة السلام شيخ القراء البصريين يقرأ في دار بها الملك : { والسماء ذات البروج } فكأني ما سمعتها قط حتى بلغ إلى قوله تعالى : { فعال لما يريد } فكأن الإيوان قد سقط علينا . والقلوب تخشع بالصوت الحسن كما تخضع للوجه الحسن ، وما تتأثر به القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر وأقرب إلى لين القلوب وذهاب القسوة منها .
وكان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى ، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات ، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى فيسمع من الطور ، فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا طول قراءته إلا الاستماع إليه . [ ص: 5 ]
وكان صاحب مصر الملقب بالأفضل قد دخلها في المحرم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وحولها عن أيدي العباسية ، وهو حنق عليها وعلى أهلها بحصاره لهم وقتالهم له ، فلما صار فيها ، وتدانى بالمسجد الأقصى منها ، وصلى ركعتين تصدى له ابن الكازروني ، وقرأ : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } فما ملك نفسه حين سمعه أن قال للناس على عظم ذنبهم عنده ، وكثرة حقده عليهم : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } .
والأصوات الحسنة نعمة من الله تعالى ، وزيادة في الخلق ومنة . وأحق ما لبست هذه الحلة النفيسة والموهبة الكريمة كتاب الله ; فنعم الله إذا صرفت في الطاعة فقد قضي بها حق النعمة .