الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية الثالثة قوله تعالى : { وثيابك فطهر }

                                                                                                                                                                                                              فيها مسألتان :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على قولين : أحدهما أنه أراد نفسك فطهر ، والنفس يعبر عنها بالثياب [ كما ] قال امرؤ القيس :

                                                                                                                                                                                                              وإن تك قد ساءتك منى خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 295 ] الثاني أن المراد به الثياب الملبوسة ، فتكون حقيقة ، ويكون [ التأويل ] الأول مجازا . والذي يقول : إنها الثياب المجازية أكثر . روى ابن وهب عن مالك أنه قال : ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد ، لا في الطريق قال الله تعالى : { وثيابك فطهر } يريد مالك أنه كنى بالثياب عن الدين .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى عبد الله بن نافع عن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى : { وثيابك فطهر } أي لا تلبسها على غدرة .

                                                                                                                                                                                                              وقد روي ذلك مسندا إلى ابن عباس ، وكثيرا ما تستعمله العرب في ذلك كله قال أبو كبشة :

                                                                                                                                                                                                              ثياب بني عوف طهارى نقية     وأوجههم عند المشاعر غران

                                                                                                                                                                                                              يعني بطهارة ثيابهم سلامتهم من الدناءات ، ويعني بغرة وجوههم تنزيههم عن الحرمات ، أو جمالهم في الخلقة ، أو كليهما . وقد قال غيلان بن سلمة الثقفي :

                                                                                                                                                                                                              فإني بحمد الله لا ثوب غادر     لبست ولا من غدرة أتقنع



                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز ، على ما بيناه في أصول الفقه . وإذا حملناها على الثياب المعلومة [ الظاهرة ] فهي تتناول معنيين : أحدهما تقصير الأذيال ، فإنها إذا أرسلت تدنست ; ولهذا قال عمر بن الخطاب لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا : يا غلام ، ارفع إزارك ، فإنه أتقى وأنقى وأبقى . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح : { إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، وما كان أسفل من ذلك ففي النار } ; فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب ، وتوعد ما تحته بالنار ; فما بال رجال يرسلون أذيالهم ، ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم .

                                                                                                                                                                                                              وهذه حالة الكبر وقائدة العجب ، وأشد ما في الأمر أنهم يعصمون ويحتجون ، ويلحقون أنفسهم بمن لم يجعل الله معه غيره ، ولا ألحق [ ص: 296 ] به سواه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لا ينظر الله لمن جر ثوبه خيلاء } . ولفظ الصحيح : { من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله له يوم القيامة . قال أبو بكر : يا رسول الله ; إن أحد شقي إزاري يسترخي ، إلا أن أتعاهد ذلك منه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لست ممن يصنعه خيلاء } . فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بالنهي ] ، واستثنى أبا بكر الصديق ، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالأقصياء ; وليس ذلك لهم .

                                                                                                                                                                                                              والمعنى الثاني : غسلها من النجاسة ; وهو ظاهر منها صحيح فيها . وقد بينا اختلاف الأقوال في ذلك بصحيح الدلائل ، ولا نطول بإعادته ، وقد أشار بعض الصوفية إلى أن معناه وأهلك فطهر ; وهذا جائز ، فإنه قد يعبر عن الأهل بالثياب . قال الله تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن }

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية