[ ص: 364 ] الآية الثالثة قوله تعالى : { الذي علم بالقلم } : فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى الأقلام في الأصل ثلاثة : القلم الأول كما ثبت في الحديث : { } . أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب ما كان وما يكون إلى يوم الساعة ، فهو عنده في الذكر فوق عرشه
القلم الثاني : ما جعل الله بأيدي الملائكة يكتبون به المقادير والكوائن والأعمال ، وذلك قوله تعالى : { كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون } خلق الله لهم الأقلام ، وعلمهم الكتاب بها .
القلم الثالث أقلام الناس ، جعلها الله تعالى بأيديهم يكتبون بها كلامهم ، ويصلون بها إلى مآربهم ، والله أخرج الخلق من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، وخلق لهم السمع والبصر والنطق حسبما بيناه في كتاب قانون التأويل ، ثم رزقهم معرفة العبادة باللسان على ثمانية وعشرين [ وجها ، وقيل ] حرفا يضطرب بها اللسان بين الحنك والأسنان فيتقطع الصوت تقطيعا يثبت عنه مقطعاته على نظام متسق قرنت به معارف في أفرادها وفي تأليفها ، وألقى إلى العبد معرفة أدائها ، فذلك قوله : { وعلمك ما لم تكن تعلم } .
ثم خلق الله اليد والقدرة ، ورزقه العلم [ والرتبة ] ، وصور له حروفا تعادل له الصور المحسوسة في إظهار المعنى المنقول في النطق ، فيقابل هذا مكتوبا ذلك الملفوظ ، ويقابل الملفوظ ما ترتب في القلب ، ويكون الكل سواء ، ويحصل به العلم ، { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } .
المسألة الثانية جعل الله هذا كله مرتبا للخلق ، ونظاما للآدميين ، ويسره فيهم ; فكان أقل الخلق به معرفة العرب ، وأقل العرب به معرفة [ الحجازيون ، وأعدم الحجازيين به معرفة ] المصطفى صلى الله عليه وسلم [ صرفه ] عن علمه ، ليكون ذلك أثبت لمعجزته ، وأقوى في حجته .
[ ص: 365 ] المسألة الثالثة ولكل أمة تقطيع في الأصوات على نظام يعبر عما في النفس ، ولهم صورة في الخط تعبر عما يجري به اللسان ، وفي اختلاف ألسنتكم وألوانكم دليل قاطع على ربكم القادر العليم الحكيم الحاكم ; وأم اللغات وأشرفها العربية ، لما هي عليه من إيجاز اللفظ ، وبلوغ المعنى ، وتصريف الأفعال وفاعليها ومفعوليها ، كلها على لفظ واحد ، الحروف واحدة ، والأبنية في الترتيب مختلفة ، وهذه قدرة وسيعة وآية بديعة .
المسألة الرابعة لكل أمة حروف مصورة بالقلم موضوعة على الموافقة لما في نفوسهم من الكلم ، على حسب مراتب لغاتهم ، من عبراني ، ويوناني ، وفارسي ، وغير ذلك من أنواع اللغات أو عربي ; وهو أشرفها ، وذلك كله مما علم الله لآدم عليه السلام حسبما جاء في القرآن في قوله : { وعلم آدم الأسماء كلها } ; فلم يبق شيء إلا وعلم الله سبحانه آدم اسمه بكل لغة ، وذكره آدم للملائكة كما علمه ، وبذلك ظهر فضله ، وعظم قدره ، وتبين علمه ، وثبتت نبوته ، وقامت حجة الله على الملائكة ، وحجته ، وامتثلت الملائكة لما رأت من شرف الحال ، ورأت من جلال القدرة ، وسمعت من عظيم الأمر ، ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف ، وتناقلوه قوما عن قوم ، تحفظه أمة وتضيعه أخرى ، والبارئ سبحانه يضبط على الخلق بالوحي منه ما شاء على من شاء من الأمم على مقاديرها ومجرى حكمه فيها ، حتى جاء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وتعلم العربية من جيرته جرهما ، وزوجوه فيهم ، واستقر بالحرم ، فنزل عليه جبريل فعلمه العربية غضة طرية ، وألقاها إليه صحيحة فصيحة سوية ، واستطرب على الأعقاب في الأحقاب إلى أن وصلنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فشرف وشرفت بالقرآن العظيم ، وأوتي جوامع الكلام ، وظهرت حكمته وحكمه ، وأشرق على الآفاق فهمه وعلمه ، والحمد لله .