المسألة الرابعة : في : وهي إشهار السلاح قصد السلب ، مأخوذ من الحرب ; وهو استلاب ما على المسلم بإظهار السلاح عليه ، والمسلمون أولياء الله بقوله تعالى : { تحقيق المحاربة ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا } . وقد شرح ذلك شرحا بالغا فيما رواه مالك عنه : قال ابن وهب : قال ابن وهب : المحارب الذي يقطع السبيل وينفر بالناس في كل مكان ، ويظهر الفساد في الأرض وإن لم يقتل أحدا ، إذا ظهر عليه يقتل ; وإن لم يقتل فللإمام أن يرى فيه رأيه بالقتل ، أو الصلب ، أو القطع ، أو النفي ; قال مالك : والمستتر في ذلك والمعلن بحرابته [ سواء ] . مالك
وإن استخفى بذلك ، وظهر في الناس إذا أراد الأموال وأخاف فقطع السبيل أو قتل ، فذلك إلى الإمام ; يجتهد أي هذه الخصال شاء . وفي رواية عن أن ذلك إن كان قريبا وأخذ بحدثانه فليأخذ الإمام فيه بأشد العقوبة ، وفي ذلك أربعة أقوال : ابن وهب
الأول : ما تقدم ذكره . لمالك
الثاني : أنها الزنا والسرقة والقتل ; قاله . مجاهد
الثالث : أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية في المصر وغيره ; قاله الشافعي في رواية ومالك والأوزاعي .
الرابع : أنه المجاهر في الطريق لا في المصر ; قاله أبو حنيفة . [ ص: 95 ] وعطاء
المسألة الخامسة : في التنقيح : أما قول فساقط ، إلا أن يريد به أن يفعله مجاهرة مغالبة ، فإن ذلك أفحش في الحرابة . قال مجاهد القاضي رضي الله عنه : ولقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي قوم خرجوا محاربين إلى رفقة ، فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها فاحتملوها ، ثم جد فيهم الطلب فأخذوا وجيء بهم ، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين ، فقالوا : ليسوا محاربين ; لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج . فقلت لهم : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال ، وأن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم ولا يحرب المرء من زوجته وبنته ، ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج ، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال ، وخصوصا في الفتيا والقضاء .
وأما قول من قال : إنه سواء في المصر والبيداء فإنه أخذ بمطلق القرآن . وأما من فرق فإنه رأى أن الحرابة في البيداء أفحش منها في المصر لعدم الغوث في البيداء وإمكانه في المصر . والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر ، وإن كان بعضها أفحش من بعض ، ولكن اسم الحرابة يتناولها ، ومعنى الحرابة موجود فيها ، ولو أخرج بعضا من في المصر لقتل بالسيف ويؤخذ فيه بأشد ذلك لا بأيسره فإنه سلب غيلة ، وفعل الغيلة أقبح من فعل الظاهرة ، ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة ، فكان قصاصا ، ولم يدخل في قتل الغيلة ، وكان حدا ; فتحرر أن قطع السبيل موجب للقتل في أصح أقوالنا خلافا وغيره . للشافعي
[ ص: 96 ] فإن قيل : هذا لا يوجب إجراء الباغي بالفساد في الأرض خاصة مجرى الذي يضم إليه القتل وأخذ المال ، لعظيم الزيادة من أحدهما على الآخر .
والذي يدل على عدم التسوية بينهما أن الذي يضم إلى السعي بالفساد في الأرض القتل وأخذ المال يجب القتل عليه ، ولا يجوز إسقاطه عنه ، والذي خاصة يجوز ترك قتله ; يؤكده أن المحارب إذا قتل قوبل بالقتل ، وإذا أخذ المال قطعت يده لأخذه المال ، ورجله لإخافته السبيل ، وهذه عمدة الشافعية علينا ، وخصوصا أهل ينفرد بالسعي في إخافة السبيل خراسان منهم ، وهي باطلة لا يقولها مبتدئ . أما قولهم : كيف يسوى بين من أخاف السبيل وقتل ، وبين من أخاف السبيل ولم يقتل ، وقد وجدت منه الزيادة العظمى ، وهي القتل ؟ قلنا : وما الذي يمنع من استواء الجريمتين في العقوبة وإن كانت إحداهما أفحش من الأخرى ؟ ولم أحلتم ذلك ؟ أعقلا فعلتم ذلك أم شرعا ؟ أما العقل فلا مجال له في هذا ، وإن عولتم على الشرع فأين الشرع ؟ بل قد شاهدنا ذلك في الشرع ; فإن عقوبة القاتل كعقوبة الكافر ، وإحداهما أفحش .
وأما قوله : لو استوى حكمهما لم يجز إسقاط القتل عمن أخاف السبيل ولم يقتل ، كما لم يجز إسقاطه عمن أخاف وقتل . قلنا : هذه غفلة منكم ; فإن الذي يخيف ويقتل أجمعت الأمة على تعين القتل عليه ، فلم يجز مخالفته . أما إذا أخاف ولم يقتل فهي مسألة مختلف فيها ومحل اجتهاد ، فمن أداه اجتهاده إلى القتل حكم به ، ومن أداه اجتهاده إلى إسقاطه أسقطه ; ولهذه النكتة قال : وليستشر ليعلم الحقيقة من الإجماع والخلاف وطرق الاجتهاد لئلا يقدم على جهالة كما أقدمتم . مالك
وأما قولهم : إن القتل يقابل القتل ، وقطع اليد يقابل السرقة ، وقطع الرجل يقابل [ ص: 97 ] المال ، فهو تحكم منهم ومزج للقصاص والسرقة بالحرابة ، وهو حكم منفرد بنفسه خارج عن جميع حدود الشريعة لفحشه وقبح أمره .