القول في تأويل قوله ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين   ( 86 ) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين    ( 87 ) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون   ( 88 ) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم   ( 89 ) ) 
اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، وفيمن نزلت . 
فقال بعضهم : نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ،  وكان مسلما فارتد بعد إسلامه . 
ذكر من قال ذلك : 
7360 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري  قال : حدثنا  يزيد بن زريع  قال : حدثنا  داود بن أبي هند ،  عن عكرمة ،  عن ابن عباس  قال : كان رجل من الأنصار  أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هل لي من توبة ؟ قال : فنزلت : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم   " إلى قوله  [ ص: 573 ]  : " وجاءهم البينات  والله لا يهدي القوم الظالمين  إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم   " فأرسل إليه قومه فأسلم . 
7361 - حدثني ابن المثنى  قال : حدثني عبد الأعلى  قال : حدثنا داود ،  عن عكرمة  بنحوه ، ولم يرفعه إلى ابن عباس  إلا أنه قال : فكتب إليه قومه ، فقال : ما كذبني قومي ! فرجع . 
7362 - حدثنا أبو كريب  قال : حدثنا حكيم بن جميع ،  عن علي بن مسهر ،  عن  داود بن أبي هند ،  عن عكرمة ،  عن ابن عباس  قال : ارتد رجل من الأنصار ،  فذكر نحوه . 
7363 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق ،  قال : أخبرنا جعفر بن سليمان  قال : أخبرنا حميد الأعرج ،  عن مجاهد  قال : جاء الحارث بن سويد  فأسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم كفر الحارث  فرجع إلى قومه ، فأنزل الله - عز وجل - فيه القرآن : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم   " إلى " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم   " قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه ، فقال الحارث   : إنك والله ما علمت لصدوق ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصدق منك ، وإن الله - عز وجل - لأصدق الثلاثة . قال : فرجع الحارث  فأسلم فحسن إسلامه . 
7364 - حدثني موسى بن هارون  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط ،  عن  السدي   : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق   " قال : أنزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ،  كفر بعد إيمانه ، فأنزل الله - عز وجل - فيه هذه الآيات ، إلى : " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون   "  [ ص: 574 ] ثم تاب وأسلم ، فنسخها الله عنه ، فقال : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم   " . 
7365 - حدثني محمد بن عمرو  قال : حدثنا أبو عاصم ،  عن عيسى ،  عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد  في قول الله - عز وجل - : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات   " قال : رجل من بني عمرو بن عوف ،  كفر بعد إيمانه . 
7366 - حدثني المثنى  قال : حدثنا أبو حذيفة  قال : حدثنا شبل ،  عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد  مثله . 
7367 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج ،  عن  ابن جريج ،  عن مجاهد  قال : هو رجل من بني عمرو بن عوف ،  كفر بعد إيمانه قال  ابن جريج ،  أخبرني عبد الله بن كثير ،  عن مجاهد  قال : لحق بأرض الروم  فتنصر ، ثم كتب إلى قومه : " أرسلوا ، هل لي من توبة ؟ " قال : فحسبت أنه آمن ، ثم رجع قال  ابن جريج ،  قال عكرمة ،  نزلت في أبي عامر الراهب ،   والحارث بن سويد بن الصامت ،  ووحوح بن الأسلت  في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ،  ثم كتبوا إلى أهلهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك   " الآيات . 
وقال آخرون : عنى بهذه الآية أهل الكتاب ، وفيهم نزلت . 
ذكر من قال ذلك : 
7368 - حدثني محمد بن سعد  قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس  قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم   " فهم أهل الكتاب ، عرفوا محمدا   - صلى الله عليه وسلم - ثم كفروا به .  [ ص: 575 ] 
7369 - حدثنا محمد بن سنان  قال : حدثنا أبو بكر الحنفي  قال : حدثنا  عباد بن منصور ،  عن الحسن  في قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم   " الآية كلها . قال : اليهود  والنصارى   . 
7370 - حدثنا بشر  قال : حدثنا يزيد  قال : حدثنا سعيد ،  عن قتادة  قال : كان الحسن  يقول في قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم   " الآية ، هم أهل الكتاب من اليهود  والنصارى ،  رأوا نعت محمد   - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم وأقروا به ، وشهدوا أنه حق ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه ، وكفروا بعد إقرارهم ، حسدا للعرب ، حين بعث من غيرهم . 
7371 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : أخبرنا معمر ،  عن الحسن  في قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم   " قال : هم أهل الكتاب ، كانوا يجدون محمدا   - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم ، ويستفتحون به ، فكفروا بعد إيمانهم . 
قال أبو جعفر   : وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن  من أن هذه الآية معني بها أهل الكتاب على ما قال . غير أن الأخبار بالقول الآخر أكثر ، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن . وجائز أن يكون الله - عز وجل - أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإسلام ، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد   - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات . ثم عرف عباده سنته فيهم ، فيكون داخلا في ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد   - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث ، ثم كفر به بعد أن بعث ، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتد وهو حي عن  [ ص: 576 ] إسلامه . فيكون معنيا بالآية جميع هذين الصنفين وغيرهما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله . 
فتأويل الآية إذا : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم   " يعني : كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان قوما جحدوا نبوة محمد   - صلى الله عليه وسلم - " بعد إيمانهم " أي : بعد تصديقهم إياه ، وإقرارهم بما جاءهم به من عند ربه " وشهدوا أن الرسول حق   " يقول : وبعد أن أقروا أن محمدا  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خلقه حقا " وجاءهم البينات " يعني : وجاءهم الحجج من عند الله والدلائل بصحة ذلك ؟ " والله لا يهدي القوم الظالمين   " يقول : والله لا يوفق للحق والصواب الجماعة الظلمة ، وهم الذين بدلوا الحق إلى الباطل ، فاختاروا الكفر على الإيمان . 
وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى " الظلم " - وأنه وضع الشيء في غير موضعه - بما أغنى عن إعادته . 
" أولئك جزاؤهم " يعني : هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق - " جزاؤهم " ثوابهم من عملهم الذي عملوه " أن عليهم لعنة الله " يعني : أن يحل بهم من الله الإقصاء والبعد ، ومن الملائكة والناس الدعاء بما يسوؤهم من العقاب " أجمعين " يعني : من جميعهم لا من  [ ص: 577 ] بعض من سماه - جل ثناؤه - من الملائكة والناس ، ولكن من جميعهم . وإنما جعل ذلك - جل ثناؤه - ثواب عملهم ؛ لأن عملهم كان بالله كفرا . 
وقد بينا صفة " لعنة الناس " الكافر في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته . 
" خالدين فيها " يعني : ماكثين فيها ، يعني في عقوبة الله 
" لا يخفف عنهم العذاب " لا ينقصون من العذاب شيئا في حال من الأحوال ، ولا ينفسون فيه " ولا هم ينظرون " يعني : ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون . وذلك كله عين الخلود في العقوبة في الآخرة . 
ثم استثنى - جل ثناؤه - الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال - تعالى ذكره - : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا   " يعني : إلا الذين تابوا  [ ص: 578 ] من بعد ارتدادهم عن إيمانهم ، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله ، وصدقوا بما جاءهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - من عند ربهم " وأصلحوا " يعني : وعملوا الصالحات من الأعمال " فإن الله غفور رحيم " يعني : فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره " غفور " يعني : ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردة ، فتارك عقوبته عليه ، وفضيحته به يوم القيامة ، غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه . " رحيم " متعطف عليه بالرحمة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					