القول في تأويل قوله تعالى ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ( 113 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ليسوا سواء " ، ليس فريقا أهل الكتاب ، أهل الإيمان منهم والكفر : سواء . يعني بذلك : أنهم غير متساوين . يقول : ليسوا متعادلين ، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد ، والخير والشر . .
وإنما قيل : " ليسوا سواء " ، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله : ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) ، ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده ، المؤمنة منهما والكافرة فقال : " ليسوا سواء " ، أي : ليس هؤلاء سواء ، المؤمنون منهم والكافرون . ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل [ ص: 119 ] الكتاب ، ومدحهم ، وأثنى عليهم ، بعد ما بما وصفها به من الهلع ، ونخب الجنان ، ومحالفة الذل والصغار ، وملازمة الفاقة والمسكنة ، وتحمل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة ، فقال : " وصف الفرقة الفاسقة منهم من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " ، الآيات الثلاث ، إلى قوله : " والله عليم بالمتقين " .
فقوله : " أمة قائمة " مرفوعة بقوله : " من أهل الكتاب " .
وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدمين منهم في صناعتهم : أن ما بعد "سواء " في هذا الموضع من قوله : " أمة قائمة " ، ترجمة عن "سواء " وتفسير عنه ، بمعنى : لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة . وزعموا أن ذكر الفرقة الأخرى ، ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين ، وهي "الأمة القائمة " ، ومثلوه بقول أبي ذؤيب :
عصيت إليها القلب : إني لأمرها سميع ، فما أدري أرشد طلابها ؟
ولم يقل : "أم غير رشد " ، اكتفاء بقوله : "أرشد " من ذكر "أم غير رشد " ، . وبقول الآخر :
أراك فلا أدري أهم هممته ؟
وذو الهم قدما خاشع متضائل [ ص: 120 ]
قال أبو جعفر : وهو مع ذلك عندهم خطأ قول القائل المريد أن يقول : "سواء أقمت أم قعدت " : "سواء أقمت " ، حتى يقول : "أم قعدت " . ، وإنما يجيزون حذف الثاني فيما كان من الكلام مكتفيا بواحد ، دون ما كان ناقصا عن ذلك ، وذلك نحو : "ما أبالي " أو "ما أدري " ، فأجازوا في ذلك : "ما أبالي أقمت " ، وهم يريدون : "ما أبالي أقمت أم قعدت " ، لاكتفاء "ما أبالي " بواحد وكذلك في "ما أدري " . وأبوا الإجازة في "سواء " ، من أجل نقصانه ، وأنه غير مكتف بواحد ، فأغفلوا في توجيههم قوله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " على ما حكينا عنهم ، إلى ما وجهوه إليه - مذاهبهم في العربية إذ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع "سواء " ، وأخطأوا تأويل الآية . ف "سواء " في هذا الموضع بمعنى التمام والاكتفاء ، لا بالمعنى الذي تأوله من حكينا قوله .
وقد ذكر أن قوله : " من أهل الكتاب أمة قائمة " الآيات الثلاث ، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم .
ذكر من قال ذلك :
7644 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ، ورسخوا [ ص: 121 ] فيه ، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا! ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم ، وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله " إلى قوله : " وأولئك من الصالحين " .
7645 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عن يونس بن بكير ، محمد بن إسحاق قال : حدثني ابن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه .
7646 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " الآية ، يقول : ليس كل القوم هلك ، قد كان لله فيهم بقية .
7647 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال : " ابن جريج أمة قائمة " ، عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سلام أخوه ، وسعية ، ومبشر ، وأسيد وأسد ابنا كعب .
وقال آخرون : معنى ذلك : ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحق الله ، سواء عند الله .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 122 ]
7648 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن أنه كان يقول في قوله : " عبد الله بن مسعود ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " ، قال : لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
7649 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " ، الآية ، يقول : ليس هؤلاء السدي اليهود ، كمثل هذه الأمة التي هي قائمة .
قال أبو جعفر : وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : قد تمت القصة عند قوله : " ليسوا سواء " ، عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب وأهل الكفر منهم ، وأن قوله : " من أهل الكتاب أمة قائمة " ، خبر مبتدأ عن مدح مؤمنهم ووصفهم بصفتهم ، على ما قاله ابن عباس وقتادة . وابن جريج
ويعني جل ثناؤه بقوله : " أمة قائمة " ، جماعة ثابتة على الحق .
وقد دللنا على معنى "الأمة " فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
وأما "القائمة " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .
فقال بعضهم : معناها : العادلة .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 123 ]
7650 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أمة قائمة " ، قال : عادلة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه .
ذكر من قال ذلك :
7651 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " أمة قائمة " ، يقول : قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده .
7652 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " أمة قائمة " ، يقول : قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه .
7653 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " من أهل الكتاب أمة قائمة " ، يقول : أمة مهتدية ، قائمة على أمر الله ، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه .
وقال آخرون . بل معنى "قائمة " ، مطيعة .
ذكر من قال ذلك :
7654 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي أمة قائمة " ، الآية ، يقول : ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله ، و"القانتة " ، المطيعة .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم ، وإن كان سائر الأقوال الأخر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك . وذلك أن معنى قوله : "قائمة " ، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه ، والعدل والطاعة [ ص: 124 ] وغير ذلك من أسباب الخير ، من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ونظير ذلك الخبر الذي رواه النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
7655 - " ، كمثل قوم ركبوا سفينة " ، ثم ضرب لهم مثلا مثل القائم على حدود الله والواقع فيها . .
فالقائم على حدود الله : هو الثابت على التمسك بما أمره الله به ، واجتناب ما نهاه الله عنه .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله ، متمسكة به ، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم .