قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق : ( " ولا تحسبن الذين يبخلون" ) بالتاء من"تحسبن" .
وقرأته جماعة أخر : ( ولا يحسبن ) بالياء .
[ ص: 429 ]
ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك .
فقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : لا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم فاكتفى بذكر"يبخلون" من"البخل" ، كما تقول : "قدم فلان فسررت به" ، وأنت تريد : فسررت بقدومه . و"هو" ، عماد .
وقال بعض نحويي أهل البصرة : إنما أراد بقوله : " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم ""لا يحسبن البخل هو خيرا لهم" ، فألقى الاسم الذي أوقع عليه"الحسبان" به ، هو البخل ، لأنه قد ذكر"الحسبان" وذكر ما آتاهم الله من فضله" ، فأضمرهما إذ ذكرهما . [ ص: 430 ] قال : وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا ، قال : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) ولم يقل : "ومن أنفق من بعد الفتح" ، لأنه لما قال : ( أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد ) [ سورة الحديد : 10 ] ، كان فيه دليل على أنه قد عناهم .
وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة : إن"من" في قوله : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ) في معنى جمع . ومعنى الكلام : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم ، فكيف من أنفق من بعد الفتح؟ فالأول مكتف . وقال : في قوله "لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم " محذوف ، غير أنه لم يحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف ، لأن"هو" عائد البخل ، و"خيرا لهم" عائد الأسماء ، فقد دل هذان العائدان على أن قبلهما اسمين ، واكتفى بقوله : "يبخلون" من"البخل" .
قال : وهذا إذا قرئ ب"التاء" ، ف"البخل" قبل"الذين" ، وإذا قرئ ب"الياء" ، ف"البخل" بعد"الذين" ، وقد اكتفى ب"الذين يبخلون" ، من البخل ، كما قال الشاعر :
[ ص: 431 ] إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
كأنه قال : جرى إلى السفه ، فاكتفى عن"السفه" ب"السفيه" ، كذلك اكتفى ب"الذين يبخلون" ، من"البخل" .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : ( " ولا تحسبن الذين يبخلون" ) بالتاء ، بتأويل : ولا تحسبن ، أنت يا محمد ، بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ثم ترك ذكر"البخل" ، إذ كان في قوله : " هو خيرا لهم " دلالة على أنه مراد في الكلام ، إذ كان قد تقدمه قوله : " الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " .
وإنما قلنا : قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء ، لأن"المحسبة" من شأنها طلب اسم وخبر ، فإذا قرئ قوله : " ولا يحسبن الذين يبخلون " بالياء : لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله : " هو خيرا لهم " خبرا عنه . وإذا قرئ ذلك بالتاء ، كان قوله : "الذين يبخلون" اسما له قد أدى عن معنى"البخل" الذي هو اسم المحسبة المتروك ، وكان قوله : "هو خيرا لهم" خبرا لها ، فكان جاريا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح . فلذلك اخترنا القراءة ب"التاء" في ذلك على ما بيناه ، وإن كانت القراءة ب"الياء" غير خطأ ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب .
قال أبو جعفر : وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك : ولا تحسبن ، يا محمد ، بخل ، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات ، هو خيرا [ ص: 432 ] لهم عند الله يوم القيامة ، بل هو شر لهم عنده في الآخرة ، كما : - الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال
8278 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم " ، هم الذين آتاهم الله من فضله ، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ، ولم يؤدوا زكاتها .
وقال آخرون : بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته .
ذكر من قال ذلك :
8279 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " إلى" سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، يعني بذلك أهل الكتاب ، أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس .
8280 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد قوله : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " ، قال : هم يهود ، إلى قوله : ( والكتاب المنير ) [ سورة آل عمران : 184 ] .
وأولى التأويلين بتأويل هذه الآية ، التأويل الأول ، وهو أنه معني ب"البخل" في هذا الموضع ، منع الزكاة ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأول قوله : ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) قال : ، أنه يصير ثعبانا في عنقه ولقول الله عقيب هذه الآية : ( البخيل الذي منع حق الله منه لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) ، فوصف جل ثناؤه قول المشركين من [ ص: 433 ] . اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة أن الله فقير