[ ص: 490 ] القول في إن كنتم صادقين ( 31 ) ) تأويل قوله تعالى ذكره : (
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك .
671 - فحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " إن كنتم صادقين " إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة .
672 - وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن في خبر ذكره ، عن السدي أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كنتم صادقين " أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء .
673 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن جرير بن حازم - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " أني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، تأويل ابن عباس ومن قال بقوله . ومعنى ذلك : فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيتها الملائكة القائلون : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من غيرنا ، أم منا ؟ فنحن نسبح بحمدك [ ص: 491 ] ونقدس لك ؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، وإن جعلتكم فيها أطعتموني ، واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس . فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي ، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم ، وعلمه غيركم بتعليمي إياه ، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بعد ، وبما هو مستتر من الأمور - التي هي موجودة - عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالمين ، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم ، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي .
وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته - الذين قالوا له : " أتجعل فيها من يفسد فيها " من جهة عتابه جل ذكره إياهم - نظير قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال : ( رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ) [ سورة هود : 45 ] - : فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين [ سورة هود : 46 ] . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خلفاءه في الأرض ليسبحوه ويقدسوه فيها ، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعله في الأرض خليفة ، يفسدون فيها ويسفكون الدماء ، فقال لهم جل ذكره : " إني أعلم ما لا تعلمون " يعني بذلك : إني أعلم أن بعضكم فاتح المعاصي وخاتمها ، وهو إبليس ، منكرا بذلك تعالى ذكره قولهم . ثم عرفهم موضع هفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك ، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانا ، فكيف بما لم يروه ولم يخبروا عنه ؟ بعرضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ ، وقيله لهم : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " [ ص: 492 ] أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبحتموني وقدستموني ، وإن استخلفت فيها غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء . فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم ، وبدت لهم هفوة زلتهم ، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا : " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " فسارعوا الرجعة من الهفوة ، وبادروا الإنابة من الزلة ، كما قال نوح - حين عوتب في مسألته فقيل له : لا تسألني ما ليس لك به علم - : ( رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) [ سورة هود : 47 ] . وكذلك فعل كل مسدد للحق موفق له - سريعة إلى الحق إنابته ، قريبة إليه أوبته .
وقد زعم بعض نحويي أهل البصرة أن قوله : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " لم يكن ذلك لأن الملائكة ادعوا شيئا ، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب ، وعلمه بذلك وفضله ، فقال : " أنبئوني إن كنتم صادقين " كما يقول الرجل للرجل : " أنبئني بهذا إن كنت تعلم " وهو يعلم أنه لا يعلم ، يريد أنه جاهل .
وهذا قول إذا تدبره متدبر ، علم أن بعضه مفسد بعضا . وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة ، إذ عرض عليهم أهل الأسماء : أنبئوني بأسماء هؤلاء ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون ، ولا هم ادعوا علم شيء يوجب أن يوبخوا بهذا القول .
وزعم أن قوله : " إن كنتم صادقين " نظير قول الرجل للرجل : " أنبئني بهذا إن كنت تعلم " وهو يعلم أنه لا يعلم ، يريد أنه جاهل .
ولا شك أن معنى قوله : " إن كنتم صادقين " إنما هو : إن كنتم صادقين ، إما في قولكم ، وإما في فعلكم . لأن الصدق في كلام العرب ، إنما هو صدق في الخبر لا في [ ص: 493 ] العلم . وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال : صدق الرجل بمعنى علم . فإذ كان ذلك كذلك ، فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة ، على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الآية : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " وهو يعلم أنهم غير صادقين ، يريد بذلك أنهم كاذبون . وذلك هو عين ما أنكره ، لأنه زعم أن الملائكة لم تدع شيئا ، فكيف جاز أن يقال لهم : إن كنتم صادقين ، فأنبئوني بأسماء هؤلاء ؟ هذا مع خروج هذا القول - الذي حكيناه عن صاحبه - من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير .
وقد حكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأول قوله : " إن كنتم صادقين " بمعنى : إذ كنتم صادقين .
ولو كانت " إن " بمعنى " إذ " في هذا الموضع ، لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها ، لأن " إذ " إذا تقدمها فعل مستقبل صارت علة للفعل وسببا له . وذلك كقول القائل : " أقوم إذ قمت " فمعناه أقوم من أجل أنك قمت . والأمر بمعنى الاستقبال ، فمعنى الكلام ، لو كانت " إن " بمعنى " إذ " : أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون . فإذا وضعت " إن " مكان ذلك قيل : أنبئوني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين ، مفتوحة الألف . وفي إجماع جميع قراء أهل الإسلام على كسر الألف من " إن " دليل واضح على خطأ تأويل من تأول " إن " بمعنى " إذ " في هذا الموضع .