قال أبو جعفر : وفي قوله : " وتكتموا الحق " وجهان من التأويل :
أحدهما : أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحق ، كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل . فيكون تأويل ذلك حينئذ : ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق . ويكون قوله : " وتكتموا " عند ذلك مجزوما بما جزم به " تلبسوا " عطفا عليه .
والوجه الآخر منهما : أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل ، ويكون قوله : " وتكتموا الحق " خبرا منه عنهم بكتمانهم الحق الذي يعلمونه ، فيكون قوله : " وتكتموا " حينئذ منصوبا لانصرافه عن معنى قوله : " ولا تلبسوا الحق بالباطل " إذ كان قوله : " ولا تلبسوا " نهيا ، وقوله " وتكتموا الحق " خبرا معطوفا عليه ، غير جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله : " تلبسوا " من الحرف الجازم . وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صرفا . ونظير ذلك في المعنى والإعراب قول الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
[ ص: 570 ]فنصب " تأتي " على التأويل الذي قلنا في قوله : " وتكتموا " لأنه لم يرد : لا تنه عن خلق ولا تأت مثله ، وإنما معناه : لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله ، فكان الأول نهيا ، والثاني خبرا ، فنصب الخبر إذ عطفه على غير شكله .
فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما ، فهو على مذهب ابن عباس الذي :
827 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قوله : " وتكتموا الحق " يقول : ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون .
828 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عن سلمة بن الفضل ، ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وتكتموا الحق " أي ولا تكتموا الحق . .
وأما الوجه الثاني منهما ، فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد .
829 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : " وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " قال : كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم .
830 - وحدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .
831 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه . [ ص: 571 ]
وأما تأويل الحق الذي كتموه وهم يعلمونه ، فهو ما :
832 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وتكتموا الحق " يقول : لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به ، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم .
833 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " وتكتموا الحق " يقول : إنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله ، فنهاهم عن ذلك .
834 - وحدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " قال : يكتم أهل الكتاب محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
835 - وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
836 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " قال : الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم .
837 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن [ ص: 572 ] الربيع ، عن أبي العالية : " وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " قال : كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم .
838 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد : تكتمون محمدا وأنتم تعلمون ، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل .
فتأويل الآية إذا : ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه ، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الأمم دون بعض ، أو تنافقوا في أمره ، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم وجميع الأمم غيركم ، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب ، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته ، وأنه رسولي إلى الناس كافة ، وأنتم تعلمون أنه رسولي ، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي ، وتعرفون أن من عهدي - الذي أخذت عليكم في كتابكم - الإيمان به وبما جاء به والتصديق به .