قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "من أجل ذلك" ، من جر ذلك وجريرته وجنايته . يقول : من جر القاتل أخاه من ابني آدم اللذين اقتصصنا قصتهما الجريرة التي جرها ، وجنايته التي جناها "كتبنا على بني إسرائيل" .
يقال منه : "أجلت هذا الأمر" ، أي : جررته إليه وكسبته ، "آجله له أجلا" ، كقولك : "أخذته أخذا" ، ومن ذلك قول الشاعر :
وأهل خباء صالح ذات بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله
[ ص: 232 ] يعني بقوله : "أنا آجله" ، أنا الجار ذلك عليه والجاني .
فمعنى الكلام : من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلما ، حكمنا على بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسا ظلما ، بغير نفس قتلت ، فقتل بها قصاصا ، " أو فساد في الأرض " ، يقول : أو قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها في الأرض ، فاستحقت بذلك قتلها . وفسادها في الأرض إنما يكون بالحرب لله ولرسوله ، وإخافة السبيل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
11770 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثني عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " ، يقول : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن قتل نبيا أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعا .
ذكر من قال ذلك :
11771 - حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال : حدثنا الفضل [ ص: 233 ] بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا ، ومن قتل نبيا أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعا .
11772 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، يقول : من قتل نفسا واحدة حرمتها ، فهو مثل من قتل الناس جميعا ، " ومن أحياها " ، يقول : من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مخافتي ، واستحياها أن يقتلها ، فهو مثل استحياء الناس جميعا يعني بذلك الأنبياء .
وقال آخرون : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، عند المقتول في الإثم " ومن أحياها " ، فاستنقذها من هلكة " فكأنما أحيا الناس جميعا " ، عند المستنقذ .
ذكر من قال ذلك :
11773 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن فيما ذكر عن السدي ، أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن عن مرة الهمداني ، عبد الله ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل [ ص: 234 ] الناس جميعا " ، عند المقتول ، يقول : في الإثم " ومن أحياها " ، فاستنقذها من هلكة " فكأنما أحيا الناس جميعا " ، عند المستنقذ .
وقال آخرون : معنى ذلك : إن قاتل النفس المحرم قتلها ، يصلى النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعا "ومن أحياها" ، من سلم من قتلها ، فقد سلم من قتل الناس جميعا .
ذكر من قال ذلك :
11774 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : " من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من كف عن قتلها فقد أحياها "ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا " ، قال : ومن أوبقها .
11775 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : من أوبق نفسا فكما لو قتل الناس جميعا ، ومن أحياها وسلم من ظلمها فلم يقتلها ، فقد سلم من قتل الناس جميعا .
11776 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد : "فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، لم يقتلها ، وقد سلم منه الناس جميعا ، لم يقتل أحدا .
11777 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي قال : أخبرنا عبدة بن أبي لبابة قال : سألت أو : سمعته يسأل عن قوله : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، قال : لو قتل الناس جميعا ، كان جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب [ ص: 235 ] الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابا عظيما . مجاهدا
11778 - حدثني المثنى قال : حدثنا ، سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن قراءة ، عن ابن جريج عن الأعرج ، مجاهد في قوله : " فكأنما قتل الناس جميعا " ، قال : الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا ، جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما . يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك من العذاب قال قال ابن جريج ، مجاهد : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : من لم يقتل أحدا ، فقد استراح الناس منه .
11779 - حدثنا سفيان قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : أوبق نفسه .
11780 - حدثنا سفيان قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قال : في الإثم .
11780 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، وقوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) [ سورة النساء : 93 ] قال : يصير إلى جهنم بقتل المؤمن ، كما أنه لو قتل الناس جميعا لصار إلى جهنم .
11781 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " قال : هو كما قال ، وقال : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، فإحياؤها : لا يقتل نفسا حرمها الله ، فذلك الذي أحيا الناس جميعا ، يعني : أنه من حرم قتلها إلا بحق ، حيي الناس منه جميعا . [ ص: 236 ]
11782 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد : "ومن أحياها" ، قال : ومن حرمها فلم يقتلها .
11783 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن العلاء قال : سمعت يقول : " مجاهدا من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من كف عن قتلها فقد أحياها .
11784 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " فكأنما قتل الناس جميعا " قال : هي كالتي في" النساء " : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) [ سورة النساء : 93 ] ، في جزائه .
11785 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فكأنما قتل الناس جميعا " كالتي في" سورة النساء " ، ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) في جزائه " ومن أحياها " ، ولم يقتل أحدا ، فقد حيي الناس منه .
11786 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد في قوله ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : التفت إلى جلسائه فقال : هو هذا وهذا .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، لأنه يجب عليه من القصاص به والقود بقتله مثل الذي يجب عليه من القود والقصاص لو قتل الناس جميعا .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 237 ]
11787 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، قال : يجب عليه من القتل مثل لو أنه قتل الناس جميعا . قال : كان أبي يقول ذلك .
وقال آخرون معنى قوله : "ومن أحياها" : من عفا عمن وجب له القصاص منه فلم يقتله .
ذكر من قال ذلك :
11788 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، يقول : من أحياها أعطاه الله جل وعز من الأجر مثل لو أنه أحيا الناس جميعا " أحياها " فلم يقتلها وعفا عنها . قال : وذلك ولي القتيل ، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت . قال : كان أبي يقول ذلك :
11789 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن بشار مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من عفا .
11790 - حدثنا سفيان قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من قتل حميم له فعفا عن دمه .
11791 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن . " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : العفو بعد القدرة . [ ص: 238 ]
وقال آخرون : معنى قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، ومن أنجاها من غرق أو حرق .
ذكر من قال ذلك :
11792 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : من أنجاها من غرق ، أو حرق ، أو هلكة .
11793 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد قال : حدثنا عن وكيع ، سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، قال : من غرق ، أو حرق ، أو هدم .
11794 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل عن خصيف ، عن مجاهد : "ومن أحياها" ، قال : أنجاها .
وقال الضحاك بما : -
11795 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي عامر ، عن الضحاك قال : "من قتل نفسا بغير نفس" ، قال : من تورع أو لم يتورع .
11796 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثني عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فكأنما أحيا الناس جميعا " ، يقول : لو لم يقتله لكان قد أحيا الناس ، فلم يستحل محرما . [ ص: 239 ]
وقال قتادة ، والحسن في ذلك بما : -
11797 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض " ، قال : عظم ذلك .
11798 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس " الآية ، من قتلها على غير نفس ولا فساد أفسدته" فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " عظم والله أجرها ، وعظم وزرها! فأحيها يا ابن آدم بما لك ، وأحيها بعفوك إن استطعت ، ولا قوة إلا بالله . وإنا لا نعلمه يحل دم رجل مسلم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، فعليه القتل أو زنى بعد إحصانه ، فعليه الرجم أو قتل متعمدا ، فعليه القود .
11799 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : تلا قتادة : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : عظم والله أجرها ، وعظم والله وزرها!
11800 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سلام بن مسكين قال : حدثني سليمان بن علي الربعي قال : قلت للحسن : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس " الآية ، أهي لنا يا أبا سعيد ، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل! وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا؟
11801 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن [ ص: 240 ] المبارك ، عن سعيد بن زيد قال : سمعت خالدا أبا الفضل قال : سمعت الحسن تلا هذه الآية : " فطوعت له نفسه قتل أخيه " إلى قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، ثم قال : عظم والله في الوزر كما تسمعون ، ورغب والله في الأجر كما تسمعون! إذا ظننت يا ابن آدم ، أنك لو قتلت الناس جميعا ، فإن لك من عملك ما تفوز به من النار ، كذبتك والله نفسك ، وكذبك الشيطان .
11802 - حدثنا هناد قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله : " فكأنما قتل الناس جميعا " قال : وزرا " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : أجرا .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : تأويل [ ص: 241 ] ذلك : أنه من قتل نفسا مؤمنة بغير نفس قتلتها فاستحقت القود بها والقتل قصاصا أو بغير فساد في الأرض ، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها فكأنما قتل الناس جميعا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه ، كما أوعده ذلك من فعله ربه بقوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) [ سورة النساء : 93 ] .
وأما قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " فأولى التأويلات به قول من قال : من حرم قتل من حرم الله عز ذكره قتله على نفسه ، فلم يتقدم على قتله ، فقد حيى الناس منه بسلامتهم منه ، وذلك إحياؤه إياها . وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاج إبراهيم في ربه إذ قال له إبراهيم : ( 8 ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ) [ سورة البقرة : 258 ] . فكان معنى الكافر في قيله : "أنا أحيي" ، أنا أترك من قدرت على قتله - وفي قوله : " وأميت " ، قتله من قتله . فكذلك معنى" الإحياء " ، في قوله : " ومن أحياها " ، من سلم الناس من قتله إياهم ، إلا فيما أذن الله في قتله منهم " فكأنما أحيا الناس جميعا " .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية ، لأنه لا نفس يقوم قتلها في عاجل الضر مقام قتل جميع النفوس ، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس في عاجل النفع . فكان معلوما بذلك أن معنى" الإحياء " : سلامة جميع النفوس منه ، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة ، فقد سلم منه جميع النفوس - وأن الواحدة منها التي يقوم قتلها مقام جميعها إنما هو في الوزر ، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها ، وإن كان فقد بعضها أعم ضررا من فقد بعض .