القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية ، وإن كان مأمورا بذلك جميع المؤمنين .
فقال بعضهم : عنى بذلك عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن أبي ابن سلول ، في براءة عبادة من حلف اليهود ، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول بحلف اليهود ، بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسك بحلفهم : أنه منهم في براءته من الله ورسوله كبراءتهم منهما .
ذكر من قال ذلك :
12156 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن عطية بن سعد قال : عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من يهود كثير [ ص: 396 ] عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن أبي : يا أبا الحباب ، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه؟ قال : قد قبلت . فأنزل الله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " إلى قوله : " فترى الذين في قلوبهم مرض " . جاء
12157 - حدثنا هناد قال ، حدثنا قال ، حدثني يونس بن بكير عثمان بن عبد الرحمن ، عن الزهري قال : لما انهزم أهل بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر ! فقال مالك بن صيف : غركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يد أن تقاتلونا! فقال عبادة : يا رسول الله ، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيرا سلاحهم ، شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي : لكني لا أبرأ من ولاء يهود ، إني رجل لا بد لي منهم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا حباب ، أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه ؟ قال : إذا أقبل ! فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " إلى أن بلغ إلى قوله : " والله يعصمك من الناس " .
12158 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس قال ، حدثنا ابن إسحاق قال ، [ ص: 397 ] حدثني والدي إسحاق بن يسار ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج ، له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم! ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في"المائدة" : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " ، الآية .
وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من المؤمنين كانوا هموا حين نالهم بأحد من أعدائهم من المشركين ما نالهم أن يأخذوا من اليهود عصما ، فنهاهم الله عن ذلك ، وأعلمهم أن من فعل ذلك منهم فهو منهم .
ذكر من قال ذلك :
12159 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن : " السدي يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، قال : لما كانت وقعة أحد ، اشتد على طائفة من الناس ، وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار ، فقال رجل لصاحبه : أما أنا فألحق بدهلك اليهودي ، فآخذ منه أمانا وأتهود معه ، فإني أخاف أن تدال علينا اليهود . وقال الآخر : أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض [ ص: 398 ] الشأم ، فآخذ منه أمانا وأتنصر معه ، فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " .
وقال آخرون : بل عني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر ، في إعلامه بني قريظة إذ رضوا بحكم سعد : أنه الذبح .
ذكر من قال ذلك :
12160 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، عكرمة قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر ، من الأوس وهو من بني عمرو بن عوف فبعثه إلى قريظة حين نقضت العهد ، فلما أطاعوا له بالنزول ، أشار إلى حلقه : الذبح الذبح .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرهم ، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين ، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين ، وأن الله ورسوله منه بريئان . وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرجلين اللذين ذكر أن أحدهما هم باللحاق بدهلك اليهودي ، والآخر بنصراني السدي بالشأم ولم [ ص: 399 ] يصح بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر تثبت بمثله حجة ، فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل .
فإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عم ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه . غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودا أو نصارى خوفا على نفسه من دوائر الدهر ، لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك ، وذلك قوله : ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) الآية .
وأما قوله : " بعضهم أولياء بعض " ، فإنه عنى بذلك : أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين ، ويد واحدة على جميعهم ، وأن النصارى كذلك ، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم معرفا بذلك عباده المؤمنين : أن من كان لهم أو لبعضهم وليا ، فإنما هو وليهم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين ، كما اليهود والنصارى لهم حرب . فقال تعالى ذكره للمؤمنين : فكونوا أنتم أيضا بعضكم أولياء بعض ، ولليهودي والنصراني حربا كما هم لكم حرب ، وبعضهم لبعض أولياء ، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحرب ، ومنهم البراءة ، وأبان قطع ولايتهم .