القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ( 57 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الذين آمنوا " ، أي : صدقوا الله ورسوله " لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، يعني اليهود والنصارى الذين [ ص: 429 ] جاءتهم الرسل والأنبياء ، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومن قبل نزول كتابنا " أولياء " ، يقول : لا تتخذوهم ، أيها المؤمنون ، أنصارا أو إخوانا أو حلفاء ، فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة .
وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين أنهم اتخذوا دينهم هزوا ولعبا بالدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره ، أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيم ، ثم يراجع الكفر بعد يسير من المدة بإظهار ذلك بلسانه قولا بعد أن كان يبدي بلسانه الإيمان قولا وهو للكفر مستبطن تلعبا بالدين واستهزاء به ، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) [ سورة البقرة : 14 ، 15 ] .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن ابن عباس .
12216 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا قال ، حدثني يونس بن بكير ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما ، فأنزل الله فيهما : " هم الغالبون ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " إلى قوله " والله أعلم بما كانوا يكتمون " .
فقد أبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا ، من أن اتخاذ من اتخذ دين الله هزوا ولعبا من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله في هذه الآية ، إنما كان بالنفاق منهم وإظهارهم للمؤمنين الإيمان ، واستبطانهم الكفر ، وقيلهم لشياطينهم من اليهود إذا خلوا بهم : "إنا معكم " ، فنهى الله عن موادتهم ومخالتهم ، والتمسك بحلفهم ، والاعتداد بهم أولياء ، وأعلمهم أنهم لا يألونهم خبالا وفي دينهم طعنا ، وعليه إزراء .
وأما " الكفار " الذين ذكرهم الله تعالى ذكره في قوله : "من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " ، فإنهم المشركون من عبدة الأوثان . نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل الكفر أولياء دون المؤمنين .
وكان ابن مسعود فيما : -
12217 - حدثني به أحمد بن يوسف قال ، حدثنا قال ، حدثنا القاسم بن سلام حجاج ، عن هارون ، عن ابن مسعود يقرأ : ( من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا ) .
ففي هذا بيان صحة التأويل الذي تأولناه في ذلك . [ ص: 431 ]
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته جماعة من أهل الحجاز والبصرة والكوفة : ( والكفار أولياء ) بخفض"الكفار " ، بمعنى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، ومن الكفار ، أولياء .
وكذلك ذلك في قراءة أبي بن كعب فيما بلغنا : ( من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار أولياء ) .
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة : ( والكفار أولياء ) بالنصب ، بمعنى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا والكفار عطفا ب"الكفار " على"الذين اتخذوا" .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان متفقتا المعنى ، صحيحتا المخرج ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرأة ، فبأي ذلك قرأ القارئ فقد أصاب . لأن النهي عن اتخاذ ولي من الكفار ، نهي عن اتخاذ جميعهم أولياء . والنهي عن اتخاذ جميعهم أولياء ، نهي عن اتخاذ بعضهم وليا . وذلك أنه غير مشكل على أحد من أهل الإسلام أن الله تعالى ذكره إذا حرم اتخاذ ولي من المشركين على المؤمنين ، أنه لم يبح لهم اتخاذ جميعهم أولياء ولا إذا حرم اتخاذ جميعهم أولياء ، أنه لم يخصص إباحة اتخاذ بعضهم وليا ، فيجب من أجل إشكال ذلك عليهم ، طلب الدليل على أولى القراءتين في ذلك بالصواب . وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء قرأ القارئ بالخفض أو بالنصب ، لما ذكرنا من العلة .
وأما قوله : " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " ، فإنه يعني : وخافوا الله ، أيها المؤمنون ، [ ص: 432 ] في هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار ، أن تتخذوهم أولياء ونصراء ، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدمه إليكم بالنهي عنه ، إن كنتم تؤمنون بالله وتصدقونه على وعيده على معصيته .