قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته قرأة الحجاز والشأم والبصرة وبعض الكوفيين : ( وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، بمعنى : "عابد " ، فجعل"عبد " ، فعلا ماضيا من صلة المضمر ، ونصب"الطاغوت " ، بوقوع"عبد " عليه .
وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين : ( وعبد الطاغوت ) بفتح"العين " من"عبد " وضم بائها ، وخفض"الطاغوت " بإضافة"عبد " إليه . وعنوا بذلك : وخدم الطاغوت .
12226 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ، حدثني حمزة ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ : ( وعبد الطاغوت ) يقول : خدم ، قال عبد الرحمن : وكان حمزة كذلك يقرؤها .
[ ص: 440 ] 12227 - حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن الأعمش : أنه كان يقرؤها كذلك .
وكان الفراء يقول : إن تكن فيه لغة مثل "حذر " و"حذر " ، و"عجل " ، و"عجل " ، فهو وجه ، والله أعلم وإلا فإن أراد قول الشاعر :
أبني لبينى إن أمكم أمة وإن أباكم عبد
فإن هذا من ضرورة الشعر ، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي ، وأما في القراءة فلا .
وقرأ ذلك آخرون : ( وعبد الطاغوت ) ذكر ذلك عن الأعمش .
وكأن من قرأ ذلك كذلك ، أراد جمع الجمع من "العبد " ، كأنه جمع "العبد " "عبيدا " ، ثم جمع "العبيد " "عبدا " ، مثل : "ثمار وثمر" .
وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤه : ( وعبد الطاغوت ) .
12228 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال : كان أبو جعفر النحوي يقرؤها : ( وعبد الطاغوت ) ، كما يقول : "ضرب عبد الله" .
[ ص: 441 ] قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا معنى لها ، لأن الله تعالى ذكره ، إنما ابتدأ الخبر بذم أقوام ، فكان فيما ذمهم به عبادتهم الطاغوت . وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عبد ، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية ، ولا من جنس ما ختمها به ، فيكون له وجه يوجه إليه في الصحة .
وذكر أن بريدة الأسلمي كان يقرؤه : ( وعابد الطاغوت ) .
12229 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شيخ بصري : أن بريدة كان يقرؤه كذلك .
ولو قرئ ذلك : ( وعبد الطاغوت ) ، بالكسر ، كان له مخرج في العربية صحيح ، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها ، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها . ووجه جوازها في العربية ، أن يكون مرادا بها "وعبدة الطاغوت " ، ثم حذفت " الهاء " للإضافة ، كما قال الراجز :
قام ولاها فسقوه صرخدا
يريد : قام ولاتها ، فحذف"التاء " من"ولاتها " للإضافة .
قال أبو جعفر : وأما قراءة القرأة ، فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما ، [ ص: 442 ] وهو : ( وعبد الطاغوت ) ، بنصب"الطاغوت " وإعمال "عبد " فيه ، وتوجيه"عبد " إلى أنه فعل ماض من"العبادة" .
والآخر : ( وعبد الطاغوت ) ، على مثال"فعل " ، وخفض"الطاغوت " بإضافة"عبد " إليه .
فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجا في العربية منهما ، فأولاهما بالصواب من القراءة ، قراءة من قرأ ذلك ( وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب : ( وابن مسعود وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : والذين عبدوا الطاغوت ففي ذلك دليل واضح على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به : ومن عبد الطاغوت ، وأن النصب ب"الطاغوت " أولى ، على ما وصفت في القراءة ، لإعمال "عبد " فيه ، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها .
على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في"من " و"الذي " المضمرين مع"من " و"في " إذا كفت"من " أو"في " منهما ويستقبحونه ، حتى كان بعضهم يحيل ذلك ولا يجيزه . وكان الذي يحيل ذلك يقرؤه : ( وعبد الطاغوت ) ، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز .
وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح . فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة . وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام ، قد اختاروا القراءة بها ، وإعمال و"جعل " في"من " ، وهي محذوفة مع"من" .
ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه ، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين ، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضا فيهم لا يتناكرونه ، فلا نستجيز الخروج منه إلى غيره . فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين [ ص: 443 ] اللتين ذكرنا أنهم لم يعدوهما .
وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الآية : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ، من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، ومن عبد الطاغوت .
وقد بينا معنى"الطاغوت " فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا .
وأما قوله : " أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل " ، فإنه يعني بقوله : "أولئك " ، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره ، وهم الذين وصف صفتهم فقال : " من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " ، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل .
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم " شر مكانا " ، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نقمتم عليهم يا معشر اليهود إيمانهم بالله ، وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب ، وبما أنزل إلى من قبلهم من الأنبياء " وأضل عن سواء السبيل " ، يقول تعالى ذكره : وأنتم مع ذلك ، أيها اليهود ، أشد أخذا على غير الطريق القويم ، وأجور عن سبيل الرشد والقصد منهم .
قال أبو جعفر : وهذا من لحن الكلام . وذلك أن الله تعالى ذكره إنما [ ص: 444 ] قصد بهذا الخبر إخبار اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه ، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم ، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم ، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير ، خطابا منه لهم بذلك ، تعريضا بالجميل من الخطاب ، ولحن لهم بما عرفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن ، وعلم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له : قل لهم ، يا محمد ، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم شر ، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقول ذلك لهم .