قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص تعالى ذكره قصصهم في هذه السورة ، وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم ، واجتراءهم على ربهم ، وتوثبهم على أنبيائهم ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم إياه ، ورداءة مطاعمهم ومآكلهم ، وسائر المشركين غيرهم ، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم ، والإزراء عليهم ، والتقصير بهم ، والتهجين لهم ، وما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأن لا يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبوه في نفسه بمكروه ما قام فيهم بأمر الله ، ولا جزعا من كثرة عددهم وقلة عدد من معه ، وأن لا يتقي أحدا في ذات الله ، فإن الله تعالى ذكره كافيه كل أحد من خلقه ، ودافع عنه مكروه كل من يبغي مكروهه . وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم ، فهو في تركه تبليغ ذلك وإن قل ما لم يبلغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئا .
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
[ ص: 468 ] 12270 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " ، يعني : إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك ، لم تبلغ رسالاتي .
12271 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، الآية ، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ، ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ . ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت! فقال : والله لأبدين عقبي للناس ما صاحبتهم .
12272 - حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عن رجل ، عن سفيان الثوري ، مجاهد قال : لما نزلت : " بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، قال : إنما أنا واحد ، كيف أصنع؟ تجمع علي الناس! فنزلت : " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " ، الآية .
12273 - حدثنا هناد قالا : حدثنا وابن وكيع جرير ، عن ثعلبة ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحرسوني ، إن ربي قد عصمني .
[ ص: 469 ] 12274 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا وابن وكيع عن ابن علية ، الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه ، فلما نزلت : " والله يعصمك من الناس " ، خرج فقال : يا أيها الناس ، الحقوا بملاحقكم ، فإن الله قد عصمني من الناس .
12275 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عن وكيع ، عاصم بن محمد ، عن قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه ، فأنزل الله تعالى ذكره : " محمد بن كعب القرظي يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " ، إلى آخرها .
12276 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي قال ، حدثنا سعيد الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، حتى نزلت هذه الآية : "والله يعصمك من الناس " ، قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال : "أيها الناس ، انصرفوا ، فقد عصمني الله
. [ ص: 470 ] 12277 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن القرظي : والله يعصمك من الناس " . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحرس ، حتى أنزل الله : "
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية .
فقال بعضهم : نزلت بسبب أعرابي كان هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكفاه الله إياه .
ذكر من قال ذلك :
12278 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن وغيره قال : محمد بن كعب القرظي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة ، فيقيل تحتها . فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال من يمنعك مني؟ قال : الله! فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله : " والله يعصمك من الناس " .
[ ص: 471 ] وقال آخرون : بل نزلت لأنه كان يخاف قريشا ، فأومن من ذلك .
ذكر من قال ذلك :
12279 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن قال : ابن جريج كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشا ، فلما نزلت : " والله يعصمك من الناس " ، استلقى ثم قال : "من شاء فليخذلني مرتين أو ثلاثا .
12280 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عن وكيع ، ابن أبي خالد ، عن عامر ، عن مسروق قال ، قالت عائشة : من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب! ثم قرأت : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " ، الآية .
12281 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن المغيرة ، عن الشعبي قال ، قالت عائشة : من قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم ، فقد كذب وأعظم الفرية على الله! قال الله تعالى ذكره : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " الآية .
12282 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا قال : أخبرنا ابن علية عن داود بن أبي هند ، الشعبي ، عن مسروق قال ، قالت عائشة : من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله ، فقد أعظم على الله الفرية! والله يقول : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، الآية .
12283 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن الجهم ، [ ص: 472 ] عن مسروق بن الأجدع قال : دخلت على عائشة يوما فسمعتها تقول : لقد أعظم الفرية من قال إن محمدا كتم شيئا من الوحي! والله يقول : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " .
ويعني بقوله : " والله يعصمك من الناس " ، يمنعك من أن ينالوك بسوء . وأصله من "عصام القربة " ، وهو ما توكى به من سير وخيط ،
ومنه قول الشاعر :
وقلت : عليكم مالكا ، إن مالكا سيعصمكم ، إن كان في الناس عاصم
يعني : يمنعكم .
وأما قوله : " إن الله لا يهدي القوم الكافرين " ، فإنه يعني : إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق ، وجار عن قصد السبيل ، وجحد ما جئته به من عند الله ، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه .