قال أبو جعفر : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) : واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا . وجائز أيضا أن يكون تأويله : واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا ، كما قال الراجز : وتأويل قوله : (
قد صبحت ، صبحها السلام بكبد خالطها سنام في ساعة يحبها الطعام
وهو يعني : يحب فيها الطعام . فحذفت " الهاء " الراجعة على " اليوم " ، إذ فيه اجتزاء [ ص: 27 ] - بما ظهر من قوله : ( واتقوا يوما لا تجزي نفس ) الدال على المحذوف منه - عما حذف ، إذ كان معلوما معناه .
وقد زعم قوم من أهل العربية أنه لا يجوز أن يكون المحذوف في هذا الموضع إلا " الهاء " . وقال آخرون : لا يجوز أن يكون المحذوف إلا " فيه " . وقد دللنا فيما مضى على جواز حذف كل ما دل الظاهر عليه .
وأما المعنى في قوله : ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية - عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة ، وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا ، ولا يجزي فيه والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا .
وأما تأويل قوله : " لا تجزي نفس " فإنه يعني : لا تغني : كما : -
874 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن : " واتقوا يوما لا تجزي نفس " أما " تجزي " : فتغني . السدي
أصل " الجزاء " - في كلام العرب - : القضاء والتعويض . يقال : " جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء " ، بمعنى : قضيته دينه . ومن ذلك قيل : " جزى الله فلانا عني خيرا أو شرا " ، بمعنى : أثابه عني وقضاه عني ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إلي . وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب : " يقال أجزيت عنه كذا " : إذا أعنته عليه ، وجزيت عنك فلانا : إذا كافأته
وقال آخرون منهم : بل " جزيت عنك " قضيت عنك . و" أجزيت " كفيت . [ ص: 28 ] وقال آخرون منهم : بل هما بمعنى واحد ، يقال : " جزت عنك شاة وأجزت ، وجزى عنك درهم وأجزى ، ولا تجزي عنك شاة ولا تجزي " بمعنى واحد ، إلا أنهم ذكروا أن " جزت عنك ، ولا تجزي عنك " من لغة أهل الحجاز ، وأن " أجزأ وتجزئ " من لغة غيرهم . وزعموا أن تميما خاصة من بين قبائل العرب تقول : " أجزأت عنك شاة ، وهي تجزئ
عنك " . وزعم آخرون أن " جزى " بلا همز : قضى ، و" أجزأ " بالهمز : كافأ فمعنى الكلام إذا : واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غنى .
فإن قال لنا قائل : وما معنى : لا تقضي نفس عن نفس ، ولا تغني عنها غنى ؟
قيل : هو أن أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه . وأما في الآخرة فإنه فيما أتتنا به الأخبار عنها - يسر الرجل أن يبرد له على ولده أو والده حق . وذلك أن قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات . كما :
875 - حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قالا : حدثنا المحاربي ، عن أبي خالد الدالاني يزيد بن عبد الرحمن ، عن عن زيد بن أبي أنيسة ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي هريرة ، أبو كريب في حديثه : أو مال أو جاه ، فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثم دينار ولا درهم ، فإن كانت له حسنات أخذوا من حسناته ، وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم " [ ص: 29 ] 876 - حدثنا : " رحم الله عبدا كانت عنده لأخيه مظلمة في عرض - قال أبو عثمان المقدمي ، قال : حدثنا الفروي ، قال : حدثنا مالك ، عن المقبري ، عن أبيه ، عن عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . أبي هريرة ،
877 - حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا أبو همام الأهوازي ، قال : أخبرنا عبد الله بن سعيد ، عن سعيد عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . [ ص: 30 ] 878 - حدثنا أبي هريرة ، قال : حدثنا موسى بن سهل الرملي نعيم بن حماد ، قال : حدثنا عبد العزيز الدراوردي ، عن ، عن عمرو بن أبي عمرو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يموتن أحدكم وعليه دين ، فإنه ليس هناك دينار ولا درهم ، إنما يقتسمون هنالك الحسنات والسيئات " وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يمينا وشمالا .
879 - حدثني محمد بن إسحاق ، قال : قال : حدثنا سالم بن قادم ، قال : حدثنا أبو معاوية هاشم بن عيسى ، قال : أخبرني الحارث بن مسلم ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديث . أبي هريرة
قال أبو جعفر : فذلك معنى قوله جل ثناؤه : ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) [ ص: 31 ] يعني : أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها ; لأن القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا . وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسره أن يثبت له على ولده أو والده حق ، فيؤخذ منه ولا يتجافى له عنه ؟ .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى قوله : ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) : لا تجزي منها أن تكون مكانها .
وهذا قول يشهد ظاهر القرآن على فساده . وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقول القائل : " ما أغنيت عني شيئا " ، بمعنى : ما أغنيت مني أن تكون مكاني ، بل إذا أرادوا الخبر عن شيء أنه لا يجزي من شيء قالوا : " لا يجزي هذا من هذا " ، ولا يستجيزون أن يقولوا : " لا يجزي هذا من هذا شيئا " .
فلو كان تأويل قوله : ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) ما قاله من حكينا قوله لقال : ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس ) كما يقال : لا تجزي نفس من نفس ، ولم يقل : " لا تجزي نفس عن نفس شيئا " . وفي صحة التنزيل بقوله : " لا تجزي نفس عن نفس شيئا " أوضح الدلالة على صحة ما قلنا وفساد قول من ذكرنا قوله في ذلك .