قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أو فك عبد من أسر العبودة وذلها .
وأصل "التحرير " ، الفك من الأسر ، ومنه قول : الفرزدق بن غالب
أبني غدانة ، إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال
يعني بقوله : "حررتكم " ، فككت رقابكم من ذل الهجاء ولزوم العار .
وقيل : "تحرير رقبة " ، والمحرر ذو الرقبة ، لأن العرب كان من شأنها إذا أسرت أسيرا أن تجمع يديه إلى عنقه بقد أو حبل أو غير ذلك ، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة . فجرى الكلام [ ص: 553 ] عند إطلاقهم الأسير ، بالخبر عن فك يديه عن رقبته ، وهم يريدون الخبر عن إطلاقه من أسره ، كما يقال : "قبض فلان يده عن فلان " ، إذا أمسك يده عن نواله "وبسط فيه لسانه " ، إذا قال فيه سوءا فيضاف الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله ، لاستعمال الناس ذلك بينهم ، وعلمهم بمعنى ذلك . فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره : "أو تحرير رقبة " ، أضيف "التحرير " إلى "الرقبة " ، وإن لم يكن هناك غل في رقبته ولا شد يد إليها ، وكان المراد بالتحرير نفس العبد ، بما وصفنا ، من جراء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه .
فإن قال قائل : أفكل الرقاب معني بذلك أو بعضه؟
قيل : بل معني بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد ، والعمى والخرس ، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق ، ونظائر ذلك . فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب ، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين . فكان معلوما بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية . فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر ، فإنهم معنيون به .
[ ص: 554 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم .
ذكر من قال ذلك :
12482 - حدثنا هناد . . . قال ، حدثنا مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان يقول : من كانت عليه رقبة واجبة فاشترى نسمة ، قال : إذا أنقذها من عمل أجزأته ، ولا يجوز عتق من لا يعمل . فأما الذي يعمل ، كالأعور ونحوه . وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ ، الأعمى والمقعد .
12483 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن قال : كان يكره عتق المخبل في شيء من الكفارات .
12484 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى عتق المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات .
وقال بعضهم : لا يجزئ في إلا صحيح ، ويجزئ الصغير فيها . الكفارة من الرقاب
ذكر من قال ذلك :
12485 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عن وكيع ، سفيان ، عن عن ابن جريج ، عطاء قال : لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح .
12486 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عن وكيع ، سفيان ، عن عن ابن جريج ، عطاء قال : يجزئ المولود في الإسلام من رقبة .
12487 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عن وكيع ، الأعمش ، عن إبراهيم قال : ما كان في القرآن من "رقبة مؤمنة " ، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى . وما كان ليس بمؤمنة ، فالصبي يجزئ .
[ ص: 555 ] وقال بعضهم : لا يقال للمولود"رقبة " ، إلا بعد مدة تأتي عليه .
ذكر من قال ذلك :
12488 - حدثني قال ، حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن عن محمد بن شعيب بن شابور ، النعمان بن المنذر ، عن سليمان قال : إذا ولد الصبي فهو نسمة ، وإذا انقلب ظهرا لبطن فهو رقبة ، وإذا صلى فهو مؤمنة .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال ، إن الله تعالى عم بذكر "الرقبة " كل رقبة ، فأي رقبة حررها المكفر يمينه في كفارته ، فقد أدى ما كلف ، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره ، لم يعنه بالتحرير ، فذلك خارج من حكم الآية ، وما عدا ذلك فجائز تحريره في الكفارة بظاهر التنزيل .
والمكفر مخير في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه ، وذلك : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة بإجماع من الجميع ، لا خلاف بينهم في ذلك . فإن ظن ظان أن ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ، ليس كما قلنا ، لما : -
12489 - حدثنا قال ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا قال ، حدثنا سليمان الشيباني أبو الضحى ، عن مسروق ، قال : جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال : إني آليت من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) [ سورة المائدة : 87 ] . قال فقال معقل : إنما سألتك أن أتيت [ ص: 556 ] على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله : ائت النساء ونم ، وأعتق رقبة ، فإنك موسر .
12490 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني جرير بن حازم : أن حدثه ، عن سليمان الأعمش إبراهيم بن يزيد النخعي ، عن همام بن الحارث : أن نعمان بن مقرن سأل فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال عبد الله بن مسعود ابن مسعود : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، كفر عن يمينك ، ونم على فراشك ! قال : بم أكفر عن يميني؟ قال : أعتق رقبة ، فإنك موسر .
ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وغيرهما ، فإن ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من [ ص: 557 ] الرقاب ، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة ، لأنه لم ينقل أحد عن أحد منهم أنه قال : لا يجزئ الموسر التكفير إلا بالرقبة . والجميع من علماء الأمصار ، قديمهم وحديثهم ، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائز للموسر . ففي ذلك مكتفى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره . وابن عمر