[ ص: 68 ] القول في تأويل قوله ( وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه )
قال أبو جعفر : اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله : ( وما لكم ألا تأكلوا ) .
فقال بعض نحويي البصريين : معنى ذلك : وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا . قال : وذلك نظير قوله : ( وما لنا ألا نقاتل ) ، [ سورة البقرة : 246 ] . يقول : أي شيء لنا في ترك القتال ؟ قال : ولو كانت " لا " ، زائدة لا يقع الفعل . ولو كانت في معنى : " وما لنا وكذا " ، لكانت : وما لنا وأن لا نقاتل .
وقال غيره : إنما دخلت " لا " للمنع ؛ لأن تأويل " ما لك " ، و " ما منعك " واحد . " ما منعك لا تفعل ذلك " ، و " ما لك لا تفعل " ، واحد . فلذلك دخلت " لا " . قال : وهذا الموضع تكون فيه " لا " ، وتكون فيه " أن " ، مثل قوله : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) ، [ سورة النساء : 176 ] ، و " أن لا تضلوا " ، يمنعكم من الضلال بالبيان .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ، قول من قال : معنى قوله : ( وما لكم ) ، في هذا الموضع : وأي شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ؟ وذلك أن الله تعالى ذكره تقدم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه ، وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه [ ص: 69 ] المعروفة ، وتحريم ما أهل به لغيره ، من الحيوان وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة والمنخنقة والمتردية ، وسائر ما حرم الله من المطاعم . ثم قال : وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته ، وقد فصلت لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون ، وبينته لكم بقولي : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ) ، إلى قوله : ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم ) ، [ سورة المائدة : 3 ] ، فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله ، فتتمنعوا من أكل حلاله حذرا من مواقعة حرامه .
فإذ كان ذلك معناه ، فلا وجه لقول متأولي ذلك : " وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا " ؛ لأن ذلك إنما يقال كذلك ، لمن كان كف عن أكله رجاء ثواب بالكف عن أكله ، وذلك يكون ممن آمن بالكف فكف اتباعا لأمر الله وتسليما لحكمه . ولا نعلم أحدا من سلف هذه الأمة كف عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك ، واعتقادا منه أن الله حرمه عليه . فبين بذلك - إذ كان الأمر كما وصفنا - أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا .
وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى قوله : " فصل " ، و " فصلنا " و " فصل " بين ، أو بين ، بما يغني عن إعادته في هذا الموضع كما : -
13791 - حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) ، يقول : قد بين لكم ما حرم عليكم .
13792 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد ، مثله . [ ص: 70 ]
واختلفت القرأة في قول الله جل ثناؤه : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) .
فقرأه بعضهم بفتح أول الحرفين من " فصل " و " حرم " ، أي : فصل ما حرمه من مطاعمكم ، فبينه لكم .
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( وقد فصل ) بفتح فاء " فصل " وتشديد صاده ، " ما حرم " ، بضم حائه وتشديد رائه ، بمعنى : وقد فصل الله لكم المحرم عليكم من مطاعمكم .
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين : " وقد فصل لكم " ، بضم فائه وتشديد صاده ، " ما حرم عليكم " ، بضم حائه وتشديد رائه ، على وجه ما لم يسم فاعله في الحرفين كليهما .
وروي عن عطية العوفي أنه كان يقرأ ذلك : " وقد فصل " ، بتخفيف الصاد وفتح الفاء ، بمعنى : وقد أتاكم حكم الله فيما حرم عليكم .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن كل هذه القراءات الثلاث التي ذكرناها ، سوى القراءة التي ذكرنا عن عطية ، قراءات معروفات مستفيضة القراءة بها في قرأة الأمصار ، وهن متفقات المعاني غير مختلفات ، فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب فيه الصواب .
وأما قوله : ( إلا ما اضطررتم إليه ) ، فإنه يعني تعالى ذكره : أن ما اضطررنا إليه من المطاعم المحرمة التي بين تحريمها لنا في غير حال الضرورة ، لنا حلال ما كنا إليه مضطرين ، حتى تزول الضرورة . كما : - [ ص: 71 ]
13793 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( إلا ما اضطررتم إليه ) ، من الميتة .