وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( 153 ) ) القول في تأويل قوله (
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وهذا الذي وصاكم به ربكم ، أيها الناس ، في هاتين الآيتين من قوله : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) ، وأمركم بالوفاء به ، هو " صراطه " يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده ( مستقيما ) ، يعني قويما لا اعوجاج به عن الحق ( فاتبعوه ) ، يقول : فاعملوا به ، واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه ، فاتبعوه ( ولا تتبعوا السبل ) ، يقول : ولا تسلكوا طريقا سواه ، ولا تركبوا منهجا غيره ، ولا تبغوا دينا خلافه ، من [ ص: 229 ] اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان ، وغير ذلك من الملل ، فإنها بدع وضلالات ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول : فيشتت بكم - إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق ولا أديان - اتباعكم إياها " عن سبيله " ، يعني : عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه ، وهو الإسلام الذي وصى به الأنبياء ، وأمر به الأمم قبلكم ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره : هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم : " أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " ، وصاكم به " لعلكم تتقون " ، يقول : لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها ، وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها ، فيحل بكم نقمته وعذابه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
14163 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال : البدع والشبهات .
14164 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
14165 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولا تتبعوا السبل ) ، البدع والشبهات .
14166 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [ ص: 230 ] ، وقوله : ( وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ سورة الشورى : 13 ] ، ونحو هذا في القرآن . قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .
14167 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول : لا تتبعوا الضلالات .
14168 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) . قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا فقال : هذا سبيل الله . ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطا فقال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها . ثم قرأ هذه الآية : (
14169 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال : " سبيله " ، الإسلام ، و " صراطه " ، الإسلام . نهاهم أن يتبعوا السبل سواه ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، عن الإسلام .
14170 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبان : أن رجلا قال : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا لابن مسعود محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد ، وعن يساره جواد ، وثم رجال يدعون من مر بهم . فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به [ ص: 231 ] إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود : ( وأن هذا صراطي مستقيما ) ، الآية .
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : ( وأن هذا صراطي مستقيما ) .
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : ( وأن ) بفتح " الألف " من " أن " ، وتشديد " النون " ، ردا على قوله : ( أن لا تشركوا به شيئا ) ، بمعنى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " ، " وأن هذا صراطي مستقيما " .
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : " وإن " بكسر " الألف " من " إن " ، وتشديد "النون " منها ، على الابتداء وانقطاعها عن الأول ؛ إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه ، عندهم .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار وعوام المسلمين ، صحيح معنياهما ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فهو مصيب الحق في قراءته .
وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله ، كما أمر عباده الأنبياء . وإن أدخل ذلك مدخل فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : ( تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) ، وما أمركم به ، ففتح على ذلك " أن " ، [ ص: 232 ] فمصيب وإن كسرها ، إذ كانت " التلاوة " قولا وإن كان بغير لفظ " القول " لبعدها من قوله : " أتل " ، وهو يريد إعمال ذلك فيه ، فمصيب وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأول و " التلاوة " ، وأن ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أمر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك ، فمصيب .
وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصري : " وأن " بفتح الألف من " أن " وتخفيف النون منها ، بمعنى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " ، " وأن هذا صراطي " ، فخففها ؛ إذ كانت " أن " في قوله : ( أن لا تشركوا به شيئا ) ، مخففة ، وكانت " أن " في قوله ( وأن هذا صراطي ) ، معطوفة عليها ، فجعلها نظيرة ما عطفت عليه .
وذلك وإن كان مذهبا ، فلا أحب القراءة به ، لشذوذها عن قراءة قرأة الأمصار ، وخلاف ما هم عليه في أمصارهم .