[ ص: 8 ]
( القول في البيان عن
nindex.php?page=treesubj&link=20758_20759اتفاق معاني آي القرآن ، ومعاني منطق من نزل بلسانه القرآن من وجه البيان - والدلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة - مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام )
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، رحمه الله :
إن من أعظم نعم الله تعالى ذكره على عباده ، وجسيم منته على خلقه ، ما منحهم من فضل البيان الذي به عن ضمائر صدورهم يبينون ، وبه على عزائم نفوسهم يدلون ، فذلل به منهم الألسن وسهل به عليهم المستصعب فبه إياه يوحدون ، وإياه به يسبحون ويقدسون ، وإلى حاجاتهم به يتوصلون ، وبه بينهم يتحاورون ، فيتعارفون ويتعاملون .
ثم جعلهم ، جل ذكره - فيما منحهم من ذلك - طبقات ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات : فبين خطيب مسهب ، وذلق اللسان مهذب ، ومفحم عن نفسه لا يبين ، وعي عن ضمير قلبه لا يعبر . وجعل أعلاهم فيه رتبة ، وأرفعهم فيه درجة ، أبلغهم فيما أراد به بلاغا ، وأبينهم عن نفسه به بيانا . ثم عرفهم في تنزيله ومحكم آي كتابه فضل ما حباهم به من البيان ، على من
[ ص: 9 ] فضلهم به عليه من ذي البكم والمستعجم اللسان فقال تعالى ذكره : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=18أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) [ سورة الزخرف : 18 . فقد وضح إذا لذوي الأفهام ، وتبين لأولي الألباب ، أن فضل أهل البيان على أهل البكم والمستعجم اللسان ، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه ، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته بلسانه .
فإذا كان ذلك كذلك - وكان المعنى الذي به باين الفاضل المفضول في ذلك ، فصار به فاضلا والآخر مفضولا ، هو ما وصفنا من
nindex.php?page=treesubj&link=21326_29485فضل إبانة ذي البيان ، عما قصر عنه المستعجم اللسان ، وكان ذلك مختلف الأقدار ، متفاوت الغايات والنهايات - فلا شك أن أعلى منازل البيان درجة ، وأسنى مراتبه مرتبة ، أبلغه في حاجة المبين عن نفسه ، وأبينه عن مراد قائله ، وأقربه من فهم سامعه . فإن تجاوز ذلك المقدار ، وارتفع عن وسع الأنام ، وعجز عن أن يأتي بمثله جميع العباد ، كان حجة وعلما لرسل الواحد القهار - كما كان حجة وعلما لها إحياء الموتى وإبراء الأبرص وذوي العمى ، بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طب المتطببين وأرفع مراتب علاج المعالجين ، إلى ما يعجز عنه جميع العالمين . وكالذي كان لها حجة وعلما قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة ، بارتفاع ذلك عن وسع الأنام ، وتعذر مثله على جميع العباد ، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين ، ولليسير منه فاعلين .
فإذا كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا ، فبين أن لا بيان أبين ، ولا حكمة أبلغ ، ولا منطق أعلى ، ولا كلام أشرف - من بيان ومنطق تحدى به
[ ص: 10 ] امرؤ قوما في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة وقيل الشعر والفصاحة ، والسجع والكهانة ، على كل خطيب منهم وبليغ ، وشاعر منهم وفصيح ، وكل ذي سجع وكهانة - فسفه أحلامهم ، وقصر بعقولهم وتبرأ من دينهم ، ودعا جميعهم إلى اتباعه والقبول منه والتصديق به ، والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم . وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته ، وحجته على حقيقة نبوته - ما أتاهم به من البيان ، والحكمة والفرقان ، بلسان مثل ألسنتهم ، ومنطق موافقة معانيه معاني منطقهم . ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة ، ومن القدرة عليه نقصة . فأقر جميعهم بالعجز ، وأذعنوا له بالتصديق ، وشهدوا على أنفسهم بالنقص . إلا من تجاهل منهم وتعامى ، واستكبر وتعاشى ، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز ، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر . فأبدى من ضعف عقله ما كان مستترا ، ومن عي لسانه ما كان مصونا ، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق ، والجاهل الأحمق ، فقال : "والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، فالخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما "! ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة .
فإذ كان تفاضل مراتب البيان ، وتباين منازل درجات الكلام ، بما وصفنا قبل - وكان الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه ، أحكم الحكماء ، وأحلم الحلماء ،
[ ص: 11 ] - كان معلوما أن أبين البيان بيانه ،
nindex.php?page=treesubj&link=28425_28424_32232وأفضل الكلام كلامه ، وأن قدر فضل بيانه ، جل ذكره ، على بيان جميع خلقه ، كفضله على جميع عباده .
فإذ كان كذلك - وكان غير مبين منا عن نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب - كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب ، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه . لأن المخاطب والمرسل إليه ، إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه ، فحاله - قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده - سواء ، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا . والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه ، لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث ، والله تعالى عن ذلك متعال . ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) [ سورة إبراهيم : 4 ] . وقال لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=64وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) [ سورة النحل : 64 . فغير جائز أن يكون به مهتديا ، من كان بما يهدى إليه جاهلا .
فقد تبين إذا - بما عليه دللنا من الدلالة - أن
nindex.php?page=treesubj&link=31781كل رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم ، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه ، وكل كتاب أنزله على نبي ، ورسالة أرسلها إلى أمة ، فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه . فاتضح بما قلنا ووصفنا ، أن كتاب الله الذي أنزله إلى نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم ، بلسان
محمد صلى الله عليه وسلم . وإذ كان لسان
محمد صلى الله عليه وسلم عربيا ، فبين أن
nindex.php?page=treesubj&link=20758القرآن عربي . وبذلك أيضا نطق محكم تنزيل ربنا ، فقال جل ذكره : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=2إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) [ سورة يوسف : 2 .
[ ص: 12 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=192وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) [ سورة الشعراء : 192 - 195 ] .
وإذ كانت واضحة صحة ما قلنا - بما عليه استشهدنا من الشواهد ، ودللنا عليه من الدلائل - فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم ، لمعاني كلام
العرب موافقة ، وظاهره لظاهر كلامها ملائما ، وإن باينه كتاب الله بالفضيلة التي فضل بها سائر الكلام والبيان ، بما قد تقدم وصفناه .
فإذ كان ذلك كذلك ، فبين - إذ كان موجودا في كلام
العرب الإيجاز والاختصار ، والاجتزاء بالإخفاء من الإظهار ، وبالقلة من الإكثار في بعض الأحوال ، واستعمال الإطالة والإكثار ، والترداد والتكرار ، وإظهار المعاني بالأسماء دون الكناية عنها ، والإسرار في بعض الأوقات ، والخبر عن الخاص في المراد بالعام الظاهر ، وعن العام في المراد بالخاص الظاهر ، وعن الكناية والمراد منه المصرح ، وعن الصفة والمراد الموصوف ، وعن الموصوف والمراد الصفة ، وتقديم ما هو في المعنى مؤخر ، وتأخير ما هو في المعنى مقدم ، والاكتفاء ببعض من بعض ، وبما يظهر عما يحذف ، وإظهار ما حظه الحذف - أن يكون ما في كتاب الله المنزل على نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ، في كل ذلك له نظيرا ، وله مثلا وشبيها .
ونحن مبينو جميع ذلك في أماكنه ، إن شاء الله ذلك وأمد منه بعون وقوة .
[ ص: 8 ]
( الْقَوْلُ فِي الْبَيَانِ عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=20758_20759اتِّفَاقِ مَعَانِي آيِ الْقُرْآنِ ، وَمَعَانِي مَنْطِقِ مَنْ نَزَلَ بِلِسَانِهِ الْقُرْآنُ مِنْ وَجْهِ الْبَيَانِ - وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ هُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ - مَعَ الْإِبَانَةِ عَنْ فَضْلِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ بَايَنَ الْقُرْآنُ سَائِرَ الْكَلَامِ )
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ :
إِنَّ مَنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى عِبَادِهِ ، وَجَسِيمِ مِنَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ ، مَا مَنَحَهُمْ مِنْ فَضْلِ الْبَيَانِ الَّذِي بِهِ عَنْ ضَمَائِرِ صُدُورِهِمْ يُبِينُونَ ، وَبِهِ عَلَى عَزَائِمِ نُفُوسِهِمْ يَدُلُّونَ ، فَذَلَّلَ بِهِ مِنْهُمُ الْأَلْسُنَ وَسَهَّلَ بِهِ عَلَيْهِمُ الْمُسْتَصْعَبَ فَبِهِ إِيَّاهُ يُوَحِّدُونَ ، وَإِيَّاهُ بِهِ يُسَبِّحُونَ وَيُقَدِّسُونَ ، وَإِلَى حَاجَاتِهِمْ بِهِ يَتَوَصَّلُونَ ، وَبِهِ بَيْنَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ ، فَيَتَعَارَفُونَ وَيَتَعَامَلُونَ .
ثُمَّ جَعَلَهُمْ ، جَلَّ ذِكْرُهُ - فِيمَا مَنَحَهُمْ مِنْ ذَلِكَ - طَبَقَاتٍ ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضِ دَرَجَاتٍ : فَبَيْنَ خَطِيبٍ مُسْهِبٍ ، وَذَلِقِ اللِّسَانِ مُهْذِبٍ ، وَمُفْحَمٍ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُبِينُ ، وَعَيٍّ عَنْ ضَمِيرِ قَلْبِهِ لَا يُعْبِّرُ . وَجَعَلَ أَعْلَاهُمْ فِيهِ رُتْبَةً ، وَأَرْفَعَهُمْ فِيهِ دَرَجَةً ، أَبْلَغَهُمْ فِيمَا أَرَادَ بِهِ بَلَاغًا ، وَأَبْيَنَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ بَيَانًا . ثُمَّ عَرَّفَهُمْ فِي تَنْزِيلِهِ وَمُحَكَمِ آيِ كِتَابِهِ فَضْلَ مَا حَبَاهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيَانِ ، عَلَى مَنْ
[ ص: 9 ] فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ ذِي الْبَكَمِ وَالْمُسْتَعْجِمِ اللِّسَانِ فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=18أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 18 . فَقَدْ وَضَحَ إِذًا لِذَوِي الْأَفْهَامِ ، وَتَبَيَّنَ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، أَنَّ فَضْلَ أَهْلِ الْبَيَانِ عَلَى أَهْلِ الْبَكَمِ وَالْمُسْتَعْجِمِ اللِّسَانِ ، بِفَضْلِ اقْتِدَارِ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ عَلَى إِبَانَةِ مَا أَرَادَ إِبَانَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِبَيَانِهِ ، وَاسْتِعْجَامِ لِسَانِ هَذَا عَمَّا حَاوَلَ إِبَانَتَهُ بِلِسَانِهِ .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ بَايَنَ الْفَاضِلُ الْمَفْضُولَ فِي ذَلِكَ ، فَصَارَ بِهِ فَاضِلًا وَالْآخَرُ مَفْضُولًا ، هُوَ مَا وَصَفْنَا مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=21326_29485فَضْلِ إِبَانَةِ ذِي الْبَيَانِ ، عَمَّا قَصَّرَ عَنْهُ الْمُسْتَعْجِمُ اللِّسَانِ ، وَكَانَ ذَلِكَ مُخْتَلِفَ الْأَقْدَارِ ، مُتَفَاوِتَ الْغَايَاتِ وَالنِّهَايَاتِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ أَعْلَى مَنَازِلِ الْبَيَانِ دَرَجَةً ، وَأَسْنَى مَرَاتِبِهِ مَرْتَبَةً ، أَبْلَغُهُ فِي حَاجَةِ الْمُبِينِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَبْيَنُهُ عَنْ مُرَادِ قَائِلِهِ ، وَأَقْرَبُهُ مِنْ فَهْمِ سَامِعِهِ . فَإِنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ ، وَارْتَفَعَ عَنْ وُسْعِ الْأَنَامِ ، وَعَجَزَ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ جَمِيعُ الْعِبَادِ ، كَانَ حُجَّةً وَعَلَمًا لِرُسُلِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ - كَمَا كَانَ حُجَّةً وَعَلَمًا لَهَا إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الْأَبْرَصِ وَذَوِي الْعَمَى ، بِارْتِفَاعِ ذَلِكَ عَنْ مَقَادِيرِ أَعْلَى مَنَازِلِ طِبِّ الْمُتَطَبِّبِينَ وَأَرْفَعِ مَرَاتِبِ عِلَاجِ الْمُعَالِجِينَ ، إِلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ جَمِيعُ الْعَالَمِينَ . وَكَالَّذِي كَانَ لَهَا حُجَّةً وَعَلَمًا قَطْعُ مَسَافَةِ شَهْرَيْنِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ ، بِارْتِفَاعِ ذَلِكَ عَنْ وُسْعِ الْأَنَامِ ، وَتَعَذُّرِ مِثْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى قَطْعِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَسَافَةِ قَادِرِينَ ، وَلِلْيَسِيرِ مِنْهُ فَاعِلِينَ .
فَإِذْا كَانَ مَا وَصَفْنَا مِنْ ذَلِكَ كَالَّذِي وَصَفْنَا ، فَبَيَّنَ أَنْ لَا بَيَانَ أَبْيَنُ ، وَلَا حِكْمَةَ أَبْلَغُ ، وَلَا مَنْطِقَ أَعْلَى ، وَلَا كَلَامَ أَشْرَفُ - مِنْ بَيَانٍ وَمَنْطِقٍ تَحَدَّى بِهِ
[ ص: 10 ] امْرُؤٌ قَوْمًا فِي زَمَانٍ هُمْ فِيهِ رُؤَسَاءُ صِنَاعَةِ الْخُطَبِ وَالْبَلَاغَةِ وَقِيلِ الشِّعْرِ وَالْفَصَاحَةِ ، وَالسَّجْعِ وَالْكِهَانَةِ ، عَلَى كُلِّ خَطِيبٍ مِنْهُمْ وَبَلِيغٍ ، وَشَاعِرٍ مِنْهُمْ وَفَصِيحٍ ، وَكُلِّ ذِي سَجْعٍ وَكِهَانَةٍ - فَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ ، وَقَصَّرَ بِعُقُولِهِمْ وَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِهِمْ ، وَدَعَا جَمِيعَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِهِ وَالْقَبُولِ مِنْهُ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ ، وَالْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ . وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ ، وَحُجَّتَهُ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ - مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيَانِ ، وَالْحِكْمَةِ وَالْفُرْقَانِ ، بِلِسَانٍ مِثْلِ أَلْسِنَتِهِمْ ، وَمَنْطِقٍ مُوَافِقَةٍ مَعَانِيهِ مَعَانِيَ مَنْطِقِهِمْ . ثُمَّ أَنْبَأَ جَمِيعَهُمْ أَنَّهُمْ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلٍ بَعْضِهِ عَجَزَةٌ ، وَمِنَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ نَقَصَةٌ . فَأَقَرَّ جَمِيعُهُمْ بِالْعَجْزِ ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالتَّصْدِيقِ ، وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالنَّقْصِ . إِلَّا مَنْ تَجَاهَلَ مِنْهُمْ وَتَعَامَى ، وَاسْتَكْبَرَ وَتَعَاشَى ، فَحَاوَلَ تَكَلُّفَ مَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ عَنْهُ عَاجِزٌ ، وَرَامَ مَا قَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُ قَادِرٍ . فَأَبْدَى مَنْ ضَعْفِ عَقْلِهِ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا ، وَمِنْ عِيِّ لِسَانِهِ مَا كَانَ مَصُونًا ، فَأَتَى بِمَا لَا يَعْجِزُ عَنْهُ الضَّعِيفُ الْأَخْرَقُ ، وَالْجَاهِلُ الْأَحْمَقُ ، فَقَالَ : "وَالطَّاحِنَاتِ طَحْنًا ، وَالْعَاجِنَاتِ عَجْنًا ، فَالْخَابِزَاتِ خُبْزًا ، وَالثَّارِدَاتِ ثَرْدًا ، وَاللَّاقِمَاتِ لَقْمًا "! وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْحَمَاقَاتِ الْمُشَبِهَةِ دَعْوَاهُ الْكَاذِبَةَ .
فَإِذْ كَانَ تَفَاضُلُ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ ، وَتَبَايُنُ مَنَازِلِ دَرَجَاتِ الْكَلَامِ ، بِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ - وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ ، أَحْكَمَ الْحُكَمَاءِ ، وَأَحْلَمَ الْحُلَمَاءِ ،
[ ص: 11 ] - كَانَ مَعْلُومًا أَنْ أَبْيَنَ الْبَيَانِ بَيَانُهُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28425_28424_32232وَأَفْضَلَ الْكَلَامِ كَلَامُهُ ، وَأَنَّ قَدْرَ فَضْلِ بَيَانِهِ ، جَلَّ ذِكْرُهُ ، عَلَى بَيَانِ جَمِيعِ خَلْقِهِ ، كَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ .
فَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ - وَكَانَ غَيْرَ مُبِينٍ مِنَّا عَنْ نَفْسِهِ مَنْ خَاطَبَ غَيْرَهُ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ عَنْهُ الْمُخَاطَبُ - كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَاطِبَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَحَدًا مَنْ خَلْقِهِ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ ، وَلَا يُرْسِلُ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ رَسُولًا بِرِسَالَةٍ إِلَّا بِلِسَانٍ وَبَيَانٍ يَفْهَمُهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ . لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِ ، إِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا خُوطِبَ بِهِ وَأُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِ ، فَحَالُهُ - قَبْلَ الْخِطَابِ وَقَبْلَ مَجِيءِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِ وَبَعْدَهُ - سَوَاءٌ ، إِذْ لَمْ يُفِدْهُ الْخِطَابُ وَالرِّسَالَةُ شَيْئًا كَانَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ جَاهِلًا . وَاللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُخَاطِبَ خِطَابًا أَوْ يُرْسِلَ رِسَالَةً لَا تُوجِبُ فَائِدَةً لِمَنْ خُوطِبَ أَوْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِينَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ النَّقْصِ وَالْعَبَثِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ مُتَعَالٍ . وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) [ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 4 ] . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=64وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [ سُورَةُ النَّحْلِ : 64 . فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُهْتَدِيًا ، مَنْ كَانَ بِمَا يُهْدَى إِلَيْهِ جَاهِلًا .
فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا - بِمَا عَلَيْهِ دَلَلْنَا مِنَ الدَّلَالَةِ - أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31781كُلَّ رَسُولٍ لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمٍ ، فَإِنَّمَا أَرْسَلَهُ بِلِسَانِ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ ، وَكُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيٍّ ، وَرِسَالَةٍ أَرْسَلَهَا إِلَى أُمَّةٍ ، فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ بِلِسَانِ مَنْ أَنْزَلَهُ أَوْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ . فَاتَّضَحَ بِمَا قُلْنَا وَوَصَفْنَا ، أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّنَا
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِلِسَانِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذْ كَانَ لِسَانُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَبِيًّا ، فَبَيِّنٌ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20758الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ . وَبِذَلِكَ أَيْضًا نَطَقَ مُحْكَمُ تَنْزِيلِ رَبِّنَا ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=2إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [ سُورَةُ يُوسُفَ : 2 .
[ ص: 12 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=192وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) [ سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 192 - 195 ] .
وَإِذْ كَانَتْ وَاضِحَةً صِحَّةُ مَا قُلْنَا - بِمَا عَلَيْهِ اسْتَشْهَدْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ - فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّنَا
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِمَعَانِي كَلَامِ
الْعَرَبِ مُوَافِقَةً ، وَظَاهِرُهُ لِظَاهِرِ كَلَامِهَا مُلَائِمًا ، وَإِنْ بَايَنَهُ كِتَابُ اللَّهِ بِالْفَضِيلَةِ الَّتِي فَضَلَ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ وَالْبَيَانِ ، بِمَا قَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُنَاهُ .
فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَبَيِّنٌ - إِذْ كَانَ مَوْجُودًا فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ الْإِيجَازُ وَالِاخْتِصَارُ ، وَالِاجْتِزَاءُ بِالْإِخْفَاءِ مِنَ الْإِظْهَارِ ، وَبِالْقِلَّةِ مِنَ الْإِكْثَارِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَاسْتِعْمَالُ الْإِطَالَةِ وَالْإِكْثَارِ ، وَالتَّرْدَادِ وَالتَّكْرَارِ ، وَإِظْهَارُ الْمَعَانِي بِالْأَسْمَاءِ دُونَ الْكِنَايَةِ عَنْهَا ، وَالْإِسْرَارُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، وَالْخَبَرُ عَنِ الْخَاصِّ فِي الْمُرَادِ بِالْعَامِّ الظَّاهِرِ ، وَعَنِ الْعَامِّ فِي الْمُرَادِ بِالْخَاصِّ الظَّاهِرِ ، وَعَنِ الْكِنَايَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُصَرَّحُ ، وَعَنِ الصِّفَةِ وَالْمُرَادُ الْمَوْصُوفُ ، وَعَنِ الْمَوْصُوفِ وَالْمُرَادُ الصِّفَةُ ، وَتَقْدِيمُ مَا هُوَ فِي الْمَعْنَى مُؤَخَّرٌ ، وَتَأْخِيرُ مَا هُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَدَّمٌ ، وَالِاكْتِفَاءُ بِبَعْضٍ مِنْ بَعْضٍ ، وَبِمَا يَظْهَرُ عَمَّا يُحْذَفُ ، وَإِظْهَارُ مَا حَظُّهُ الْحَذْفُ - أَنْ يَكُونَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ ، فِي كُلِّ ذَلِكَ لَهُ نَظِيرًا ، وَلَهُ مِثْلًا وَشَبِيهًا .
وَنَحْنُ مُبَيِّنُو جَمِيعِ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنِهِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ وَأَمَدَّ مِنْهُ بِعَوْنٍ وَقُوَّةٍ .