قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( لقد نصركم الله ) ، أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم ، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة ( ويوم حنين ) ، يقول : وفي يوم حنين أيضا قد نصركم .
و ( حنين ) واد ، فيما ذكر ، بين مكة والطائف . وأجري ، لأنه مذكر اسم لمذكر ، وقد يترك إجراؤه ، ويراد به أن يجعل اسما للبلدة التي هو بها ، ومنه قول الشاعر :
نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال
16573 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبان العطار قال : حدثنا ، عن هشام بن عروة عروة قال : " حنين " ، واد إلى جنب ذي المجاز .
( إذ أعجبتكم كثرتكم ) ، وكانوا ذلك اليوم ، فيما ذكر لنا ، اثني عشر ألفا .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك اليوم : . لن نغلب من قلة
وقيل : قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهو قول الله : ( إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ) ، يقول : فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا ( وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) ، يقول : وضاقت الأرض بسعتها عليكم .
و"الباء" ههنا في معنى "في" ، ومعناه : وضاقت عليكم الأرض في رحبها ، وبرحبها .
يقال منه : "مكان رحيب" ، أي واسع . وإنما سميت الرحاب "رحابا" لسعتها .
( ثم وليتم مدبرين ) ، عن عدوكم منهزمين "مدبرين" ، يقول : وليتموهم الأدبار ، وذلك الهزيمة . يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده ، وأنه ليس [ ص: 180 ] بكثرة العدد وشدة البطش ، وأنه ينصر القليل على الكثير إذا شاء ، ويخلي الكثير والقليل ، فيهزم الكثير .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
16574 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين ) ، حتى بلغ : ( وذلك جزاء الكافرين ) ، قال : " حنين " ، ماء بين مكة والطائف ، قاتل عليها نبي الله هوازن وثقيف ، وعلى هوازن : مالك بن عوف أخو بني نصر ، وعلى ثقيف : عبد ياليل بن عمرو الثقفي . قال : وذكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفا : عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، وألفان من الطلقاء ، وذكر لنا أن رجلا قال يومئذ : "لن نغلب اليوم بكثرة" ! قال : وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس ، وجلوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء . وذكر لنا أن نبي الله قال : " أي رب ، آتني ما وعدتني" ! قال : والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ناد يا معشر الأنصار ، ويا معشر المهاجرين !" ، فجعل ينادي الأنصار فخذا فخذا ، ثم قال : "ناد بأصحاب سورة البقرة!" . قال : فجاء الناس عنقا واحدا ، فالتفت نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا عصابة من الأنصار ، فقال : هل معكم غيركم؟ فقالوا : يا نبي الله ، والله لو عمدت إلى برك الغماد من ذي يمن [ ص: 181 ] لكنا معك ، ثم أنزل الله نصره ، وهزم عدوهم ، وتراجع المسلمون . قال : وأخذ رسول الله كفا من تراب أو : قبضة من حصباء فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : "شاهت الوجوه!" ، فانهزموا ، فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم ، وأتى الجعرانة ، فقسم بها حنين ، وتألف أناسا من الناس ، فيهم مغانم أبو سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، والأقرع بن حابس ، فقالت الأنصار : "أمن الرجل وآثر قومه" ! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له من أدم ، فقال : "يا معشرالأنصار ، ما هذا الذي بلغني؟ ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله ، وكنتم أذلة فأعزكم الله ، وكنتم وكنتم!" قال : فقال سعد بن عبادة رحمه الله : ائذن لي فأتكلم ! قال : تكلم . قال : أما قولك : "كنتم ضلالا فهداكم الله" ، فكنا كذلك "وكنتم أذلة فأعزكم الله" ، فقد علمت العرب ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا! فقال عمر : يا سعد أتدري من تكلم! فقال : نعم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، لو سلكت الأنصار واديا والناس واديا لسلكت وادي الأنصار ، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " الأنصار كرشي وعيبتي ، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا معشر الأنصار ، أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاء ، وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم! فقالت الأنصار : رضينا عن الله ورسوله ، والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله [ ص: 182 ] ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" .
16575 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته أو ظئره من بني سعد بن بكر ، أتته فسألته حنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا أملكهم ، وإنما لي منهم نصيبي ، ولكن ائتيني غدا فسليني والناس عندي ، فإني إذا أعطيتك نصيبي أعطاك الناس ، فجاءت الغد ، فبسط لها ثوبا ، فقعدت عليه ، ثم سألته ، فأعطاها نصيبه ، فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم . سبايا يوم
16576 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : ( السدي لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) ، الآية : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال : يا رسول الله ، لن نغلب اليوم من قلة! وأعجبته كثرة الناس ، وكانوا اثني عشر ألفا ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوكلوا إلى كلمة الرجل ، فانهزموا عن رسول الله ، غير العباس ، وأبي سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، قتل يومئذ بين يديه ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين الأنصار؟ أين الذين بايعوا تحت الشجرة ؟ فتراجع الناس ، فأنزل الله الملائكة بالنصر ، فهزموا المشركين يومئذ ، وذلك قوله : ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ) ، الآية .
16577 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب ، عن أبيه قال : حنين ، التقى المسلمون والمشركون ، فولى المسلمون يومئذ . قال : فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه أحد إلا ، آخذا بغرز النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يألو ما أسرع نحو [ ص: 183 ] المشركين . قال : فأتيت حتى أخذت بلجامه ، وهو على بغلة له شهباء ، فقال : يا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عباس . ناد أصحاب السمرة! وكنت رجلا صيتا ، فأذنت بصوتي الأعلى : أين أصحاب السمرة! فالتفتوا كأنها الإبل إذا حشرت إلى أولادها ، يقولون : "يا لبيك ، يا لبيك ، يا لبيك" ، وأقبل المشركون ، فالتقوا هم والمسلمون ، وتنادت الأنصار : "يا معشر الأنصار " ، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج ، فتنادوا : "يا بني الحارث بن الخزرج " ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول ، إلى قتالهم فقال : "هذا حين حمي الوطيس"! ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها ، ثم قال : "انهزموا ورب الكعبة ، انهزموا ورب الكعبة!" قال : فوالله ما زال أمرهم مدبرا ، وحدهم كليلا حتى هزمهم الله ، قال : فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته . [ ص: 184 ] لما كان يوم
16578 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهري ، عن : أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي ، ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك ، فقالوا : سعيد بن المسيب . يا رسول الله : أنت خير الناس ، وأبر الناس ، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن عندي من ترون! وإن خير القول أصدقه ، اختاروا : إما ذراريكم ونساءكم ، وإما أموالكم . قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هؤلاء جاءوني مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده منهم شيء فطابت نفسه أن يرده فليفعل ذلك ، ومن لا فليعطنا ، وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا ، فنعطيه مكانه ، فقالوا : يا نبي الله ، رضينا وسلمنا! فقال : "إني لا أدري لعل منكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا ، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا وسلموا
16579 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : حدثنا يعلى بن عطاء ، عن أبي همام ، عن أبي عبد الرحمن يعني الفهري قال : حنين ، فلما ركدت الشمس ، لبست لأمتي ، وركبت فرسي ، حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظل شجرة ، فقلت : يا رسول الله ، قد حان الرواح ، فقال : أجل! فنادى : "يا غزوة بلال يا بلال " فقام بلال من تحت سمرة ، فأقبل كأن ظله ظل طير ، فقال : لبيك وسعديك ، ونفسي فداؤك ، يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أسرج فرسي! فأخرج سرجا دفتاه حشوهما ليف ، ليس فيهما أشر [ ص: 185 ] ولا بطر قال : فركب النبي صلى الله عليه وسلم ، فصاففناهم يومنا وليلتنا ، فلما التقى الخيلان ولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عباد الله ، يا معشر المهاجرين !" . قال : ومال النبي صلى الله عليه وسلم عن فرسه ، فأخذ حفنة من تراب فرمى بها وجوههم ، فولوا مدبرين قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : ما بقي منا أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب . كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في
16580 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء وسأله رجل من قيس : فررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء : لكن رسول الله لم يفر ، وكانت هوازن يومئذ رماة ، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها وهو يقول :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
16581 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : سأله رجل : يا أبا عمارة ، وليتم يوم حنين؟ فقال البراء وأنا أسمع : أشهد أن رسول الله لم يول يومئذ دبره ، وأبو سفيان يقود بغلته ، فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
فما رؤي يومئذ أحد من الناس كان أشد منه .
16582 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني جعفر بن سليمان ، عن عوف الأعرابي ، عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال : حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب محمد عليه السلام ، لم يقفوا لنا حلب شاة أن كشفناهم ، فبينا نحن نسوقهم ، إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، فتلقانا رجال بيض حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ، ارجعوا" ! فرجعنا ، وركبنا القوم ، فكانت إياها . [ ص: 187 ]
16583 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد قال : أمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . قال : ويومئذ سمى الله الأنصار "مؤمنين" . قال : ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم يروها ) .
16584 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ) ، قال : كانوا اثني عشر ألفا .
16585 - حدثنا محمد بن يزيد الأدمي قال : حدثنا ، عن معن بن عيسى سعيد بن السائب الطائفي ، عن أبيه ، عن يزيد بن عامر قال : لما كانت انكشافة المسلمين حين انكشفوا يوم حنين ، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ منها قبضة من تراب ، فأقبل بها على المشركين وهم يتبعون المسلمين ، فحثاها في وجوههم وقال : "ارجعوا : شاهت الوجوه!" . قال : فانصرفنا ، ما يلقى أحد أحدا إلا وهو يمسح القذى عن عينيه . [ ص: 188 ]
16586 - وبه ، عن يزيد بن عامر السوائي قال : قيل له : يا أبا حاجز ، الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين ، ماذا وجدتم؟ قال : وكان أبو حاجز مع المشركين يوم حنين ، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطن ، ثم يقول : كان في أجوافنا مثل هذا!
16587 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثني المعتمر بن سليمان ، عن عوف قال : سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن أو : أم برثم قال : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين ، قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، لم يقوموا لنا حلب شاة . قال : فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في أدبارهم ، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه فقالوا لنا : "شاهت الوجوه ، ارجعوا !" ، قال : فانهزمنا ، وركبوا أكتافنا ، فكانت إياها . [ ص: 189 ]