قال أبو جعفر : وهذه الآية حث من الله - جل ثناؤه - المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم ، وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك .
يقول جل ثناؤه : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ( ما لكم ) ، أي شيء أمركم ( إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ) ، يقول : إذا قال لكم رسول الله محمد ( انفروا ) ، أي : اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم .
وأصل "النفر" ، مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاجه على ذلك . ومنه : "نفورا الدابة" . غير أنه يقال : من النفر إلى الغزو : "نفر فلان إلى ثغر كذا ينفر نفرا ونفيرا" ، وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرقون بها بين اختلاف المخبر عنه ، [ ص: 252 ] وإن اتفقت معاني الخبر .
فمعنى الكلام : ما لكم أيها المؤمنون ، إذا قيل لكم : اخرجوا غزاة "في سبيل الله" ، أي : في جهاد أعداء الله ( اثاقلتم إلى الأرض ) ، يقول : تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها .
وقيل : "اثاقلتم" لإدغام "التاء" في "الثاء" فأحدثت لها ألف؛ ليتوصل إلى الكلام بها ، لأن "التاء" مدغمة في "الثاء" . ولو أسقطت الألف ، وابتدئ بها ، لم تكن إلا متحركة ، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها ، كما قال جل ثناؤه : ( حتى إذا اداركوا فيها جميعا ) ، [ سورة الأعراف : 38 ] ، وكما قال الشاعر :
تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا عذب المذاق ، إذا ما اتابع القبل
وقوله : ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) ، يقول جل ثناؤه ، أرضيتم بحظ الدنيا والدعة فيها ، عوضا من نعيم الآخرة ، وما عند الله للمتقين في جناته [ ص: 253 ] ( من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة ) ، يقول : فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدها الله لأوليائه وأهل طاعته ( إلا قليل ) ، يسير . يقول لهم : فاطلبوا ، أيها المؤمنون ، نعيم الآخرة ، وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه ، بطاعته والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوه .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
16719 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) ، أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح ، وبعد الطائف ، وبعد حنين ، أمروا بالنفير في الصيف ، حين خرفت النخل ، وطابت الثمار ، واشتهوا الظلال ، وشق عليهم المخرج .
16720 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد قوله : ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) الآية ، قال : هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف ، أمرهم بالنفير في الصيف ، حين اخترفت النخل ، وطابت الثمار ، واشتهوا الظلال ، وشق عليهم المخرج . قال : فقالوا : "الثقيل" ، ذو الحاجة ، والضيعة ، والشغل ، والمنتشر به أمره في ذلك كله . فأنزل الله : ( انفروا خفافا وثقالا ) ، [ سورة التوبة : 41 ]