قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : ( وجاء ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم ) في التخلف ( وقعد ) عن المجيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجهاد معه ( الذين كذبوا الله ورسوله ) وقالوا الكذب ، واعتذروا بالباطل منهم . يقول - تعالى ذكره - : سيصيب الذين جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - منهم عذاب أليم .
فإن قال قائل : ( وجاء المعذرون ) وقد علمت أن " المعذر " في كلام العرب إنما هو : الذي يعذر في الأمر فلا يبالغ فيه ولا يحكمه ؟ وليست هذه صفة هؤلاء ، وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عدوهم ، وحرصوا على ذلك ، فلم يجدوا إليه السبيل ، فهم بأن يوصفوا بأنهم : " قد أعذروا " أولى وأحق منهم بأن يوصفوا بأنهم " عذروا " . وإذا وصفوا بذلك ، فالصواب في ذلك من القراءة ، ما قرأه ابن عباس وذلك ما : -
17073 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي حماد قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك قال : كان ابن عباس يقرأ : " وجاء المعذرون " مخففة ، ويقول : هم أهل العذر .
مع موافقة مجاهد إياه وغيره عليه ؟ [ ص: 417 ] قيل : إن معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه ، وإن معناه : وجاء المعتذرون من الأعراب ولكن " التاء " لما جاورت " الذال " أدغمت فيها ، فصيرتا ذالا مشددة ؛ لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى كما قيل : " يذكرون " في " يتذكرون " و " يذكر " في " يتذكر " وخرجت العين من " المعذرين " إلى الفتح ؛ لأن حركة التاء من " المعتذرين " - وهي الفتحة - نقلت إليها ، فحركت بما كانت به محركة . والعرب قد توجه في معنى " الاعتذار " إلى " الإعذار " فيقول : " قد اعتذر فلان في كذا " يعني : أعذر ، ومن ذلك قول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فقال : فقد اعتذر بمعنى : فقد أعذر .على أن أهل التأويل قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم الله بأنهم جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معذرين " .
فقال بعضهم : كانوا كاذبين في اعتذارهم ، فلم يعذرهم الله .
ذكر من قال ذلك :
17074 - حدثني أبو عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد قال : حدثني أبي ، عن الحسين قال : كان قتادة يقرأ : " وجاء المعذرون من الأعراب " قال : اعتذروا بالكذب .
17075 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن عن ابن جريج مجاهد : " وجاء المعذرون من الأعراب " ، قال : نفر من بني غفار ، جاءوا فاعتذروا ، فلم يعذرهم الله .
فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار [ ص: 418 ] بالباطل لا بالحق ، فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار ، إلا أن يوصفوا بأنهم أعذروا في الاعتذار بالباطل . فأما بالحق على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء فغير جائز أن يوصفوا به .
وقد كان بعضهم يقول : إنما جاءوا معذرين غير جادين ، يعرضون ما لا يريدون فعله . فمن وجهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك غير أني لا أعلم أحدا من أهل العلم بتأويل القرآن وجه تأويله إلى ذلك ، فأستحب القول به .
وبعد ، فإن الذي عليه من القراءة قرأة الأمصار التشديد في " الذال " أعني من قوله : ( المعذرون ) ففي ذلك دليل على صحة تأويل من تأوله بمعنى الاعتذار ؛ لأن القوم الذين وصفوا بذلك لم يكلفوا أمرا عذروا فيه ، وإنما كانوا فرقتين : إما مجتهد طائع ، وإما منافق فاسق ، لأمر الله مخالف . فليس في الفريقين موصوف بالتعذير في الشخوص مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو معذر مبالغ ، أو معتذر .
فإذا كان ذلك كذلك ، وكانت الحجة من القرأة مجمعة على تشديد " الذال " من " المعذرين " علم أن معناه ما وصفناه من التأويل .
وقد ذكر عن مجاهد في ذلك موافقة ابن عباس .
17076 - حدثني المثنى قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن حميد قال : قرأ مجاهد : " وجاء المعذرون " مخففة . وقال : هم أهل العذر .
17077 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : كان المعذرون - فيما بلغني - نفرا من بني غفار ، منهم : خفاف بن أيماء بن [ ص: 419 ] رحضة ثم كانت القصة لأهل العذر ، حتى انتهى إلى قوله : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) الآية ] .