قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( فهي ) : " قلوبكم " . يقول : ثم صلبت قلوبكم - بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه - عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم ، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة ، أو أشد قسوة " ، [ ص: 235 ] يعني : قلوبهم - عن الإذعان لواجب حق الله عليهم ، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم - أشد صلابة من الحجارة .
فإن سأل سائل فقال : وما وجه قوله : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، و " أو " عند أهل العربية ، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك ، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك ؟
قيل : إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته ، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه ، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية ، أنها - عند عباده الذين هم أصحابها ، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله - كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة ، عندهم وعند من عرف شأنهم .
وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا فقال بعضهم : إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب " أو " ، كقوله : ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات : 147 ] ، وكقول الله جل ذكره : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سبأ : 24 ] [ الإبهام على من خاطبه ] فهو عالم أي ذلك كان . قالوا : ونظير ذلك قول القائل : أكلت بسرة أو رطبة ، وهو عالم أي ذلك أكل ، ولكنه أبهم على المخاطب ، كما قال أبو الأسود الدؤلي :
أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة والوصيا [ ص: 236 ] فإن يك حبهم رشدا أصبه
ولست بمخطئ إن كان غيا
وقال بعضهم : ذلك كقول القائل : " ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا " ، وقد أطعمه النوعين جميعا . فقالوا : فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما ، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين . قالوا : فكذلك قوله : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، إنما معناه : فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين ، إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة ، وإما أن تكون أشد منها قسوة . ومعنى ذلك على هذا التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشد قسوة من الحجارة .
وقال بعضهم : " أو " في قوله : ( أو أشد قسوة ) ، بمعنى ، وأشد قسوة ، كما قال تبارك وتعالى : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) [ الإنسان : 24 ] بمعنى : وكفورا ، وكما قال : جرير بن عطية
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد
وقال آخرون : " أو " في هذا الموضع بمعنى " بل " ، فكان تأويله عندهم : فهي كالحجارة بل أشد قسوة ، كما قال جل ثناؤه : ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات : 147 ] ، بمعنى : بل يزيدون .
وقال آخرون : معنى ذلك : فهي كالحجارة ، أو أشد قسوة عندكم .
قال أبو جعفر : ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب . غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى : فهي أوجه في القسوة : إما أن تكون كالحجارة ، أو أشد ، على تأويل أن منها كالحجارة ، ومنها أشد قسوة . لأن " أو " ، وإن استعملت في أماكن من أماكن " الواو " حتى يلتبس معناها ومعنى " الواو " ، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن - فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين . فتوجيهها إلى أصلها - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا أعجب إلي من إخراجها عن أصلها ، ومعناها المعروف لها .
قال أبو جعفر : وأما الرفع في قوله : ( أو أشد قسوة ) فمن وجهين : أحدهما : أن يكون عطفا على معنى " الكاف " في قوله : ( كالحجارة ) ، لأن معناها الرفع . وذلك أن معناها معنى " مثل " ، [ فيكون تأويله ] فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة . [ ص: 238 ] والوجه الآخر : أن يكون مرفوعا ، على معنى تكرير " هي " عليه . فيكون تأويل ذلك : فهي كالحجارة ، أو هي أشد قسوة من الحجارة .