قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يوم يأتي يوم القيامة ، أيها الناس ، وتقوم الساعة ، لا تكلم نفس إلا بإذن ربها .
واختلفت القرأة في قراءة قوله : ( يوم يأتي ) .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة بإثبات الياء فيها ( يوم يأتي لا تكلم نفس ) . [ ص: 479 ]
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل البصرة وبعض الكوفيين بإثبات الياء فيها في الوصل وحذفها في الوقف .
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف : ( يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ) .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي : ( يوم يأت ) ، بحذف الياء في الوصل والوقف اتباعا لخط المصحف ، وأنها لغة معروفة لهذيل ، تقول : "ما أدر ما تقول" ، ومنه قول الشاعر :
كفاك كف ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
وقيل : ( لا تكلم ) ، وإنما هي "لا تتكلم" ، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها .
وقوله : ( فمنهم شقي وسعيد ) ، يقول : فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها ، شقي وسعيد وعاد على "النفس" ، وهي في اللفظ واحدة ، بذكر الجميع في قوله : ( فمنهم شقي وسعيد ) .
يقول : تعالى ذكره : ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير ) وهو أول نهاق الحمار وشبهه ( وشهيق ) ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نهاقه ، كما قال : رؤبة بن العجاج
حشرج في الجوف سحيلا أو شهق حتى يقال ناهق وما نهق
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
18567 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( لهم فيها زفير وشهيق ) ، يقول : صوت شديد وصوت ضعيف .
18568 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن أبي العالية في قوله : ( لهم فيها زفير وشهيق ) ، قال : "الزفير" في الحلق ، و"الشهيق" في الصدر .
18569 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، بنحوه .
18570 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : صوت الكافر في النار صوت الحمار ، أوله زفير وآخره شهيق
18571 - حدثنا أبو هشام الرفاعي ، ومحمد بن معمر البحراني ، ، ومحمد بن المثنى قالوا ، حدثنا ومحمد بن بشار أبو عامر قال ، حدثنا سليمان بن سفيان قال ، حدثنا عن عبد الله بن دينار ، ابن عمر عمر قال ، لما نزلت هذه الآية : ( فمنهم شقي وسعيد ) ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبي الله ، فعلام عملنا؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على شيء قد فرغ منه ، يا عمر ، وجرت [ ص: 481 ] به الأقلام ، ولكن كل ميسر لما خلق له اللفظ لحديث عن ابن معمر .
وقوله : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) ، يعني تعالى ذكره بقوله : ( خالدين فيها ) ، لابثين فيها ويعني بقوله : ( ما دامت السموات والأرض ) ، أبدا .
وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت : هذا دائم دوام السموات والأرض ، بمعنى أنه دائم أبدا ، وكذلك يقولون : "هو باق ما اختلف الليل والنهار" . و"ما سمر ابنا سمير" ، و"ما لألأت العفر بأذنابها " يعنون بذلك كله "أبدا" . فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم فقال : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) ، والمعنى في ذلك : خالدين فيها أبدا .
وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه .
18572 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) ، قال : ما دامت الأرض أرضا ، والسماء سماء .
ثم قال : ( إلا ما شاء ربك ) ، واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك فقال بعضهم : هذا استثناء استثناه الله في ، بعد أن أدخلهم النار . [ ص: 482 ] أهل التوحيد ، أنه يخرجهم من النار إذا شاء
ذكر من قال ذلك :
18573 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال : الله أعلم بثنياه .
وذكر لنا أن ناسا يصيبهم سفع من النار بذنوب أصابوها ، ثم يدخلهم الجنة .
18574 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، والله أعلم بثنيته . ذكر لنا أن ناسا يصيبهم سفع من النار بذنوب أصابتهم ، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته ، يقال لهم : "الجهنميون " .
18575 - حدثنا قال ، حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا شيبان بن فروخ أبو هلال قال ، حدثنا قتادة ، وتلا هذه الآية : ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ) ، إلى قوله : ( لما يريد ) ، فقال عند ذلك : حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال يخرج قوم من النار قتادة : ولا نقول مثل ما يقول أهل حروراء .
18576 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن أبي مالك ، يعني ثعلبة ، عن أبي سنان في قوله : ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال : استثناء في أهل التوحيد .
18577 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن [ ص: 483 ] معمر ، عن الضحاك بن مزاحم : ( فأما الذين شقوا ففي النار ) ، إلى قوله : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال : يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة ، فهم الذين استثني لهم .
18578 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن عامر بن جشيب ، عن خالد بن معدان في قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) ، [ سورة النبأ : 23 ] ، وقوله : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، أنهما في أهل التوحيد .
وقال آخرون : الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد ، إلا أنهم قالوا : معنى قوله : ( إلا ما شاء ربك ) ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار . ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله : ( فأما الذين شقوا ففي النار ) ( إلا ما شاء ربك ) ، لا من "الخلود" .
ذكر من قال ذلك :
18579 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن عن أبي نضرة ، جابر أو : أو : عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أبي سعيد يعني الخدري إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) ، قال : هذه الآية تأتي على القرآن كله يقول : حيث كان في القرآن ( خالدين فيها ) ، تأتي عليه قال : وسمعت أبا مجلز يقول : هو جزاؤه ، فإن شاء الله تجاوز عن عذابه .
وقال آخرون : عنى بذلك أهل النار وكل من دخلها . [ ص: 484 ]
ذكر من قال ذلك :
18580 - حدثت عن المسيب عمن ذكره ، عن ابن عباس : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) ، لا يموتون ، ولا هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض ، ( إلا ما شاء ربك ) ، قال : استثناء الله . قال : يأمر النار أن تأكلهم . قال : وقال ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ، ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا .
18581 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا .
وقال آخرون : أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة ، فعرفنا معنى ثنياه بقوله : ( عطاء غير مجذوذ ) ، أنها في الزيادة على مقدار مدة السموات والأرض . قال : ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار . وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة ، وجائز أن تكون في النقصان .
ذكر من قال ذلك :
18582 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، فقرأ حتى بلغ : ( عطاء غير مجذوذ ) ، قال : وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة ، فقال : ( عطاء غير مجذوذ ) ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب ، القول الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك : من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار ، خالدين فيها أبدا إلا ما شاء من تركهم فيها أقل من ذلك ، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة ، كما قد بينا في غير هذا الموضع ، [ ص: 485 ] بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار ، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغير جائز أن يكون استثناء في أهل الشرك وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دخولها ، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا وأنا إن جعلناه استثناء في ذلك ، كنا قد دخلنا في قول من يقول : "لا يدخل الجنة فاسق ، ولا النار مؤمن" ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم ، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا فسد هذان الوجهان ، فلا قول قال به القدوة من أهل العلم إلا الثالث . أن الله يدخل قوما من أهل الإيمان به بذنوب أصابوها النار ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة
ولأهل العربية في ذلك مذهب غير ذلك ، سنذكره بعد ، ونبينه إن شاء الله . .
وقوله : ( إن ربك فعال لما يريد ) ، يقول تعالى ذكره : إن ربك ، يا محمد ، لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره ، من الانتقام منه ، ولكنه يفعل ما يشاء فعله ، فيمضي فيهم وفيمن شاء من خلقه فعله وقضاؤه .