القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ( 92 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ) ، أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وصحة نبوته ، كالعصا التي تحولت ثعبانا مبينا ، ويده التي [ ص: 355 ] أخرجها بيضاء للناظرين ، وفلق البحر ومصير أرضه له طريقا يبسا ، والجراد والقمل والضفادع ، وسائر الآيات التي بينت صدقه وصحة نبوته .
وإنما سماها الله "بينات " لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر ، إلا بتسخير الله ذلك له . وإنما هي جمع "بينة " ، مثل "طيبة وطيبات " .
قال أبو جعفر : ومعنى الكلام : ولقد جاءكم - يا معشر يهود بني إسرائيل - موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وصحة نبوته .
وقوله : "ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون " يقول جل ثناؤه لهم : ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها . فالهاء التي في قوله : "من بعده " ، من ذكر موسى . وإنما قال : من بعد موسى ، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده - على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا .
وقد يجوز أن تكون "الهاء " التي في "بعده " إلى ذكر المجيء . فيكون تأويل الكلام حينئذ : ولقد جاءكم موسى بالبينات ، ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون . كما تقول : جئتني فكرهته ، يعني كرهت مجيئك .
وأما قوله : ( وأنتم ظالمون ) ، فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل وليس ذلك لكم ، وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه ؛ لأن العبادة لا تنبغي لغير الله . وهذا توبيخ من الله لليهود ، وتعيير منه لهم ، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا - من وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، بعد الذي علموا أن ربهم هو الرب الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال [ ص: 356 ] ما أجراه على يدي اتخاذ العجل إلها موسى صلوات الله عليه ، من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله ، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه ، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حكم الله - فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحود ما في كتبهم التي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته ، مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة - أسرع ، وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب .