القول في إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ( 48 ) تأويل قوله تعالى : ( قال فمن ربكما يا موسى ( 49 ) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ( 50 ) )
يقول تعالى ذكره لرسوله موسى وهارون : قولا لفرعون إنا قد أوحى إلينا ربك أن عذابه الذي لا نفاد له ولا انقطاع على من كذب بما ندعوه إليه من [ ص: 316 ] توحيد الله وطاعته ، وإجابة رسله ( وتولى ) يقول : وأدبر معرضا عما جئناه به من الحق .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله ( أن العذاب على من كذب وتولى ) كذب بكتاب الله ، وتولى عن طاعة الله .
وقوله ( قال فمن ربكما يا موسى ) في هذا الكلام متروك ، ترك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر عليه عنه ، وهو قوله : ( فأتياه ) فقالا له ما أمرهما به ربهما وأبلغاه رسالته ، فقال فرعون لهما ( فمن ربكما يا موسى ) فخاطب موسى وحده بقوله : يا موسى ، وقد وجه الكلام قبل ذلك إلى موسى وأخيه . وإنما فعل ذلك كذلك ، لأن المجاوبة إنما تكون من الواحد وإن كان الخطاب بالجماعة لا من الجميع ، وذلك نظير قوله ( نسيا حوتهما ) وكان الذي يحمل الحوت واحدا ، وهو فتى موسى يدل على ذلك قوله ( فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) .
وقوله ( قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) يقول تعالى ذكره : قال موسى له مجيبا : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ، يعني : نظير خلقه في الصورة والهيئة ، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا ، وكالذكور من البهائم ، أعطاها نظير خلقها وفي صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا ، فلم يعط الإنسان خلاف خلقه ، فيزوجه بالإناث من البهائم ، ولا البهائم بالإناث من الإنس ، ثم هداهم للمأتي الذي منه النسل والنماء كيف يأتيه ، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب ، وغير ذلك .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : بنحو الذي قلنا فيه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا عبد الله قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) يقول : خلق لكل شيء زوجة ، ثم هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده .
حدثنا موسى قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط عن ( السدي ربكما ياموسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) يقول : أعطى كل دابة خلقها زوجا ، ثم هدى للنكاح .
وقال آخرون : معنى قوله ( ثم هدى ) أنه هداهم إلى الألفة والاجتماع والمناكحة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) يعني : هدى بعضهم إلى بعض ، ألف بين قلوبهم وهداهم للتزويج أن يزوج بعضهم بعضا .
وقال آخرون : معنى ذلك : أعطى كل شيء صورته ، وهي خلقه الذي خلقه به ، ثم هداه لما يصلحه من الاحتيال للغذاء والمعاش .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا ثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد في قوله ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) قال : أعطى كل شيء صورته ثم هدى كل شيء إلى معيشته .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) قال : سوى خلق كل دابة ، ثم هداها لما يصلحها ، فعلمها إياه .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد قوله : ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) قال : سوى خلق كل دابة ثم هداها لما يصلحها وعلمها إياه ، ولم يجعل الناس في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الناس ، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا .
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن حميد عن مجاهد ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) قال : هداه إلى حيلته ومعيشته .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أعطى كل شيء ما يصلحه ، ثم هداه له .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : [ ص: 318 ] أخبرنا معمر عن قتادة قوله ( أعطى كل شيء خلقه ) قال : أعطى كل شيء ما يصلحه . ثم هداه له .
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك ، لأنه جل ثناؤه أخبر أنه أعطى كل شيء خلقه ، ولا يعطي المعطي نفسه ، بل إنما يعطي ما هو غيره ، لأن العطية تقتضي المعطي المعطى والعطية ، ولا تكون العطية هي المعطى ، وإذا لم تكن هي هو وكانت غيره ، وكانت الصورة كل خلق بعض أجزائه ، كان معلوما أنه إذا قيل : أعطى الإنسان صورته ، إنما يعني أنه أعطى بعض المعاني التي به مع غيره دعي إنسانا ، فكأن قائله قال : أعطى كل خلق نفسه ، وليس ذلك إذا وجه إليه الكلام بالمعروف من معاني العطية ، وإن كان قد يحتمله الكلام . فإذا كان ذلك كذلك ، فالأصوب من معانيه أن يكون موجها إلى أن كل شيء أعطاه ربه مثل خلقه ، فزوجه به ، ثم هداه لما بينا ، ثم ترك ذكر مثل ، وقيل ( أعطى كل شيء خلقه ) كما يقال : عبد الله مثل الأسد ، ثم يحذف مثل ، فيقول : عبد الله الأسد .