[ ص: 202 ] [ ص: 203 ] [ ص: 204 ] [ ص: 205 ] بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن ( القول في تفسير السورة التي يذكر فيها البقرة )
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ) .
قال
أبو جعفر : اختلفت تراجمة القرآن في
nindex.php?page=treesubj&link=32450_28973تأويل قول الله تعالى ذكره "الم " فقال بعضهم : هو اسم من أسماء القرآن .
ذكر من قال ذلك :
225 - حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : "الم " ، قال : اسم من أسماء القرآن .
226 - حدثني
المثنى بن إبراهيم الآملي ، قال : حدثنا
أبو حذيفة موسى بن مسعود ، قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قال : "الم " ، اسم من أسماء القرآن .
227 - حدثنا
القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا
الحسين بن داود ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : "الم " ، اسم من أسماء القرآن .
وقال بعضهم : هو فواتح يفتح الله بها القرآن .
ذكر من قال ذلك :
228 - حدثني
هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا
عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، قال : "الم " ، فواتح يفتح الله بها القرآن .
[ ص: 206 ]
229 - حدثنا
أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا
أبو نعيم ، قال : حدثنا
سفيان ، عن
مجاهد ، قال : "الم " ، فواتح .
230 - حدثني
المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا
إسحاق بن الحجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17294يحيى بن آدم ، عن
سفيان ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قال : "الم " ، و "حم " ، و "المص " ، و "ص " ، فواتح افتتح الله بها .
231 - حدثنا
القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، مثل حديث
هارون بن إدريس .
وقال آخرون : هو اسم للسورة .
ذكر من قال ذلك :
232 - حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=17418يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا
nindex.php?page=showalam&ids=16472عبد الله بن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن قول الله : "الم ذلك الكتاب " و "الم تنزيل " ، و "المر تلك " ، فقال : قال أبي : إنما هي أسماء السور .
وقال بعضهم : هو اسم الله الأعظم .
ذكر من قال ذلك :
233 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى ، قال : حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا
شعبة ، قال : سألت
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي عن "حم " و "طسم " و "الم " ، فقال : قال
ابن عباس : هو اسم الله الأعظم .
234 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى ، قال : حدثني
أبو النعمان ، قال : حدثنا
شعبة ، عن
إسماعيل السدي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17058مرة الهمداني ، قال : قال
عبد الله فذكر نحوه .
235 - حدثني
المثنى ، قال : حدثنا
إسحاق بن الحجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16527عبيد الله بن موسى ، عن
إسماعيل ، عن
الشعبي قال : فواتح السور من أسماء الله .
وقال بعضهم : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسمائه .
ذكر من قال ذلك :
[ ص: 207 ]
236 - حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=17324يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : حدثنا
عبد الله بن صالح ، قال حدثني
معاوية بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس ، قال : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله .
237 - حدثنا
يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، قال : حدثنا
خالد الحذاء ، عن
عكرمة ، قال : "الم " ، قسم .
[ ص: 208 ]
وقال بعضهم : هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال ، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر .
ذكر من قال ذلك :
238 - حدثنا
أبو كريب قال حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع - وحدثنا
سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي عن
شريك ، عن
عطاء بن السائب ، عن
أبي الضحى ، عن
ابن عباس : "الم " قال : أنا الله أعلم .
239 - حدثت عن
أبي عبيد ، قال : حدثنا
أبو اليقظان ، عن
عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، قال : قوله : "الم " ، قال : أنا الله أعلم .
240 - حدثني
موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا
عمرو بن حماد القناد ، قال : حدثنا
أسباط بن نصر ، عن
إسماعيل السدي في خبر ذكره ، عن
أبي مالك ، وعن
أبي صالح ، عن
ابن عباس - وعن
nindex.php?page=showalam&ids=17058مرة الهمداني ، عن
ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : "الم " قال : أما "الم " فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه .
241 - حدثنا
محمد بن معمر ، قال : حدثنا
عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا
شعبة ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس في قوله : "الم " و "حم " و "ن " ، قال : اسم مقطع .
وقال بعضهم هي حروف هجاء موضوع .
ذكر من قال ذلك :
242 - حدثت عن
منصور بن أبي نويرة ، قال : حدثنا
أبو سعيد المؤدب ، عن
خصيف ، عن
مجاهد ، قال : فواتح السور كلها "ق " و "ص " و "حم " و "طسم " و "الر " وغير ذلك ، هجاء موضوع .
وقال بعضهم : هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة .
ذكر من قال ذلك :
243 - حدثني
المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا
إسحاق بن الحجاج ، عن
عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، قال : حدثني أبي ، عن
الربيع بن أنس ، في قول الله تعالى ذكره : "الم " ، قال : هذه الأحرف ، من التسعة والعشرين حرفا ، دارت فيها الألسن كلها . ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم . وقال عيسى ابن مريم : "وعجيب ينطقون في أسمائه ، ويعيشون في رزقه ، فكيف يكفرون ؟ " . قال : الألف : مفتاح اسمه : "الله " ، واللام : مفتاح اسمه : "لطيف " ، والميم : مفتاح اسمه : "مجيد " . والألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم : مجده . الألف سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون سنة .
244 - حدثنا
ابن حميد ، قال : حدثنا
حكام ، عن
أبي جعفر ، عن
الربيع بنحوه .
وقال بعضهم : هي حروف من حساب الجمل - كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه ، إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله . وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن
الربيع بن أنس .
[ ص: 209 ]
وقال بعضهم : لكل كتاب سر ، وسر القرآن فواتحه .
وأما أهل العربية ، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك . فقال بعضهم : هي حروف من حروف المعجم ، استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها ، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا; كما استغنى المخبر - عمن أخبر عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفا - بذكر "أ ب ت ث " ، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين : قال . ولذلك رفع ( ذلك الكتاب ) ، لأن معنى الكلام : الألف واللام والميم من الحروف المقطعة ، ذلك الكتاب الذي أنزلته إليك مجموعا لا ريب فيه .
فإن قال قائل : فإن "أ ب ت ث " ، قد صارت كالاسم في حروف الهجاء ، كما كان "الحمد " اسما لفاتحة الكتاب .
قيل له : لما كان جائزا أن يقول القائل : ابني في "ط ظ " ، وكان معلوما بقيله ذلك لو قاله أنه يريد الخبر عن ابنه أنه في الحروف المقطعة - علم بذلك أن "أ ب ت ث " ليس لها باسم ، وإن كان ذلك آثر في الذكر من سائرها . قال : وإنما خولف بين ذكر حروف المعجم في فواتح السور ، فذكرت في أوائلها مختلفة ، وذكرها إذا ذكرت بأوائلها التي هي "أ ب ت ث " ، مؤتلفة ، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد - بذكر ما ذكر منها مختلفا - الدلالة على الكلام المتصل; وإذا أريد - بذكر ما ذكر منها مؤتلفا - الدلالة على الحروف المقطعة بأعيانها . واستشهدوا - لإجازة قول القائل : ابني في "ط ظ " وما أشبه ذلك ، من الخبر عنه أنه في حروف المعجم ، وأن ذلك من قيله في البيان يقوم مقام قوله : ابني في "أ ب ت ث " - برجز بعض الرجاز من
بني أسد :
لما رأيت أمرها في حطي وفنكت في كذب ولط أخذت منها بقرون [ ص: 210 ] شمط
فلم يزل صوبي بها ومعطي
حتى علا الرأس دم يغطي
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في "أبي جاد " ، فأقام قوله : "لما رأيت أمرها في حطي " مقام خبره عنها أنها في "أبي جاد " ، إذ كان ذاك من قوله ، يدل سامعه على ما يدله عليه قوله : لما رأيت أمرها في "أبي جاد " .
وقال آخرون : بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين - إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن - حتى إذا استمعوا له ، تلي عليهم المؤلف منه .
وقال بعضهم : الحروف التي هي فواتح السور حروف يستفتح الله بها كلامه .
فإن قيل : هل يكون من القرآن ما ليس له معنى ؟
قيل : معنى هذا أنه افتتح بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت ، وأنه قد أخذ في أخرى ، فجعل هذا علامة انقطاع ما بينهما ، وذلك في كلام العرب ، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول :
بل وبلدة ما الإنس من آهالها
ويقول :
لا بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا
و "بل " ليست من البيت ولا تعد في وزنه ، ولكن يقطع بها كلاما ويستأنف الآخر .
[ ص: 211 ]
قال
أبو جعفر : ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك ، وجه معروف .
فأما الذين قالوا : "الم " ، اسم من أسماء القرآن ، فلقولهم ذلك وجهان :
أحدهما : أن يكونوا أرادوا أن "الم " اسم للقرآن ، كما الفرقان اسم له . وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك ، كان تأويل قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذلك الكتاب ) ، على معنى القسم . كأنه قال : والقرآن ، هذا الكتاب لا ريب فيه .
والآخر منهما : أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التي تعرف به ، كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها ، فيفهم السامع من القائل يقول : - قرأت اليوم "المص " و "ن " - ، أي السور التي قرأها من سور القرآن ، كما يفهم عنه - إذا قال : لقيت اليوم عمرا وزيدا ، وهما بزيد وعمرو عارفان - من الذي لقي من الناس .
وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ، ونظائر "الم " "الر " في القرآن جماعة من السور ؟ وإنما تكون الأسماء أمارات إذا كانت مميزة بين الأشخاص ، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات .
قيل : إن الأسماء - وإن كانت قد صارت ، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها ، غير مميزة إلا بمعان أخر معها من ضم نسبة المسمى بها إليها أو نعته أو صفته ، بما يفرق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وضعت ابتداء للتمييز لا شك . ثم احتيج ، عند الاشتراك ، إلى المعاني المفرقة بين المسميين بها . فكذلك ذلك في أسماء السور . جعل كل اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارة للمسمى به من السور . فلما شارك المسمى به فيه غيره من سور القرآن ، احتاج المخبر عن
[ ص: 212 ] سورة منها أن يضم إلى اسمها المسمى به من ذلك ، ما يفرق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها ، من نعت وصفة أو غير ذلك . فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة ، إذا سماها باسمها الذي هو "الم " : قرأت "الم البقرة " ، وفي آل عمران : قرأت "الم آل عمران " ، و "الم ذلك الكتاب " ، و "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " . كما لو أراد الخبر عن رجلين ، اسم كل واحد منهما "عمرو " ، غير أن أحدهما تميمي والآخر أزدي ، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما : لقيت عمرا التميمي وعمرا الأزدي ، إذ كان لا يفرق بينهما وبين غيرهما ممن يشاركهما في أسمائهما ، إلا بنسبتهما كذلك . فكذلك ذلك في قول من تأول في الحروف المقطعة أنها أسماء للسور .
وأما الذين قالوا : ذلك فواتح يفتتح الله عز وجل بها كلامه ، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمن حكينا عنه من أهل العربية ، أنه قال : ذلك أدلة على انقضاء سورة وابتداء في أخرى ، وعلامة لانقطاع ما بينهما ، كما جعلت "بل " في ابتداء قصيدة دلالة على ابتداء فيها ، وانقضاء أخرى قبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء في إنشاد قصيدة ، قالوا :
بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا
و "بل " ليست من البيت ولا داخلة في وزنه ، ولكن ليدل به على قطع كلام وابتداء آخر .
وأما الذين قالوا : ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء الله عز وجل ، وبعضها من صفاته ، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الحرف الآخر ، فإنهم نحوا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر :
قلنا لها قفي لنا قالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
[ ص: 213 ]
يعني بقوله : "قالت قاف " ، قالت : قد وقفت . فدلت بإظهار القاف من "وقفت " ، على مرادها من تمام الكلمة التي هي "وقفت" . فصرفوا قوله : "الم " وما أشبه ذلك ، إلى نحو هذا المعنى . فقال بعضهم : الألف ألف "أنا " ، واللام لام "الله " ، والميم ميم "أعلم " ، وكل حرف منها دال على كلمة تامة . قالوا : فجملة هذه الحروف المقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تمام حروف الكلمة ، "أنا " الله أعلم " . قالوا : وكذلك سائر جميع ما في أوائل سور القرآن من ذلك ، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل . قالوا : ومستفيض ظاهر في كلام العرب أن ينقص المتكلم منهم من الكلمة الأحرف ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيد فيها ما ليس منها ، إذا لم تكن الزيادة ملبسة معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من "حارث " الثاء ، فيقولون : يا حار ، ومن "مالك " الكاف ، فيقولون : يا مال ، وأما أشبه ذلك ، وكقول راجزهم :
ما للظليم عال ؟ كيف لا يا ينقد عنه جلده إذا يا
كأنه أراد أن يقول : إذا يفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من "يفعل " ، وكما قال آخر منهم :
بالخير خيرات وإن شرا فا
يريد : فشرا .
ولا أريد الشر إلا أن تا
.
يريد : إلا أن تشاء ، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جميعا ، من سائر حروفهما ، وما أشبه ذلك من الشواهد التي يطول الكتاب باستيعابه .
[ ص: 214 ]
245 - وكما حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
أيوب ، nindex.php?page=showalam&ids=16453وابن عون ، عن
محمد ، قال : لما مات
يزيد بن معاوية قال لي عبدة : إني لا أراها إلا كائنة فتنة ، فافزع من ضيعتك والحق بأهلك . قلت : فما تأمرني ؟ قال : أحب إلي لك أن تا - قال
أيوب nindex.php?page=showalam&ids=16453وابن عون بيده تحت خده الأيمن ، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تعرفه .
قال
أبو جعفر : يعني ب "تا " تضطجع ، فاجتزأ بالتاء من تضطجع . وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت :
أقول إذ خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجال
يريد : الكلكل ، وكما قال الآخر :
إن شكلي وإن شكلك شتى فالزمي الخص واخفضي تبيضضي
.
فزاد ضادا ، وليست في الكلمة .
قالوا : فكذلك ما نقص من تمام حروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذكرنا أنها تتمة حروف "الم " ونظائرها - نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب في أشعارها وكلامها .
وأما الذين قالوا : كل حرف من "الم " ونظائرها ، دال على معان شتى -
[ ص: 215 ] نحو الذي ذكرنا عن
الربيع بن أنس - فإنهم وجهوا ذلك إلى مثل الذي وجهه إليه من قال : هو بتأويل "أنا الله أعلم " ، في أن كل حرف منه بعض حروف كلمة تامة ، استغني بدلالته على تمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مخالفين في كل حرف من ذلك : أهو من الكلمة التي ادعى أنه منها قائلو القول الأول ، أم من غيرها ؟ فقالوا : بل الألف من "الم " من كلمات شتى ، هي دالة على معاني جميع ذلك وعلى تمامه . قالوا : وإنما أفرد كل حرف من ذلك ، وقصر به عن تمام حروف الكلمة ، أن جميع حروف الكلمة لو أظهرت ، لم تدل الكلمة التي تظهر - التي بعض هذه الحروف المقطعة بعض لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما . قالوا : وإذ كان لا دلالة في ذلك ، لو أظهر جميعها ، إلا على معناها الذي هو معنى واحد ، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يجز إلا أن يفرد الحرف الدال على تلك المعاني ، ليعلم المخاطبون به أن الله عز وجل لم يقصد قصد معنى واحد ودلالة على شيء واحد بما خاطبهم به ، وأنه إنما قصد الدلالة به على أشياء كثيرة . قالوا : فالألف من "الم " مقتضية معاني كثيرة ، منها تمام اسم الرب الذي هو "الله " ، وتمام اسم نعماء الله التي هي آلاء الله ، والدلالة على أجل قوم أنه سنة ، إذا كانت الألف في حساب الجمل واحدا . واللام مقتضية تمام اسم الله الذي هو لطيف ، وتمام اسم فضله الذي هو لطف ، والدلالة على أجل قوم أنه ثلاثون سنة . والميم مقتضية تمام اسم الله الذي هو مجيد ، وتمام اسم عظمته التي هي مجد ، والدلالة على أجل قوم أنه أربعون سنة . فكان معنى الكلام - في تأويل قائل القول الأول - أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوصف نفسه بأنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء ، وجعل ذلك لعباده منهجا يسلكونه في مفتتح خطبهم ورسائلهم ومهم أمورهم ، وابتلاء منه لهم ليستوجبوا به عظيم الثواب في دار الجزاء ، .
كما افتتح ب (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) ، و (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) ، سورة الأنعام : 1
[ ص: 216 ] وما أشبه ذلك من السور التي جعل مفاتحها الحمد لنفسه ، وكما جعل مفاتح بعضها تعظيم نفسه وإجلالها بالتسبيح ، كما قال جل ثناؤه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) سورة الإسراء : 1 ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن ، التي جعل مفاتح بعضها تحميد نفسه ، ومفاتح بعضها تمجيدها ، ومفاتح بعضها تعظيمها وتنزيهها . فكذلك جعل مفاتح السور الأخر التي أوائلها بعض حروف المعجم ، مدائح نفسه ، أحيانا بالعلم ، وأحيانا بالعدل والإنصاف ، وأحيانا بالإفضال والإحسان ، بإيجاز واختصار ، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك .
وعلى هذا التأويل يجب أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع ، مرفوعا بعضها ببعض ، دون قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب ) ، ويكون "ذلك الكتاب " خبرا مبتدأ منقطعا عن معنى "الم " . وكذلك "ذلك " في تأويل قول قائل هذا القول الثاني ، مرفوع بعضه ببعض ، وإن كان مخالفا معناه معنى قول قائل القول الأول .
وأما الذين قالوا : هن حروف من حروف حساب الجمل دون ما خالف ذلك من المعاني ، فإنهم قالوا : لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل ، وسوى تهجي قول القائل : "الم " . وقالوا : غير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عباده إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه . فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله "الم " لا يعقل لها وجه توجه إليه ، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا ، فبطل أحد وجهيه ، وهو أن يكون مرادا بها تهجي "الم " - صح وثبت أنه مراد به الوجه الثاني ، وهو حساب الجمل; لأن قول القائل : "الم " لا يجوز أن يليه من الكلام "ذلك الكتاب " ، لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول ، إن ولي "الم " "ذلك الكتاب " .
واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما : -
246 - حدثنا به
nindex.php?page=showalam&ids=16949محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13655سلمة بن الفضل ، قال : حدثني
محمد بن إسحاق ، قال : حدثني
الكلبي ، عن
أبي صالح ، عن
ابن عباس ، عن
جابر بن عبد الله بن رئاب ، قال :
مر [ ص: 217 ] أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) ، فأتى أخاه حيي بن أخطب من يهود فقال : تعلمون والله ، لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذلك الكتاب ) فقالوا : أنت سمعته ؟ قال : نعم! قال : فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك "الم ذلك الكتاب " ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى! فقالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ قال : نعم! قالوا : لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء ، ما نعلمه بين لنبي منهم ، ما مدة ملكه وما أكل أمته غيرك! فقال : حيي بن أخطب ، وأقبل على من كان معه فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة . أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ قال : ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيره ؟ قال : نعم ! قال : ماذا ؟ قال : ( المص ) . قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة وإحدى وستون سنة . هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : نعم ! قال : ماذا ؟ قال : ( الر ) . قال : هذه [ ص: 218 ] [ ص: 219 ] والله أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة ، فقال : هل مع هذا غيره يا محمد ؟ قال : نعم ، ( المر ) ، قال : فهذه والله أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة . ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ؟ ثم قاموا عنه . فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ، ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد ، إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، ومائتان وإحدى وثلاثون ، ومائتان وإحدى وسبعون ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا : لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم : ( nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) . [ ص: 220 ]
قالوا : فقد صرح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل ، وفساد ما قاله مخالفونا فيه .
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور ، التي هي حروف المعجم : أن الله جل ثناؤه جعلها حروفا مقطعة ولم يصل بعضها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة ، لا على معنى واحد ، كما قال
الربيع بن أنس . وإن كان
الربيع قد اقتصر به على معان ثلاثة ، دون ما زاد عليها .
والصواب في تأويل ذلك عندي : أن كل حرف منه يحوي ما قاله
الربيع ، وما قاله سائر المفسرين غيره فيه - سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربية : أنه كان يوجه تأويل ذلك إلى أنه حروف هجاء ، استغني
[ ص: 221 ] بذكر ما ذكر منه في مفاتيح السور ، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفا من حروف المعجم ، بتأويل : أن هذه الحروف ، ذلك الكتاب ، مجموعة ، لا ريب فيه - فإنه قول خطأ فاسد ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين من أهل التفسير والتأويل . فكفى دلالة على خطئه ، شهادة الحجة عليه بالخطأ ، مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب " - بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ، ومرة أخرى أنه مرفوع بالراجع من ذكره في قوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2لا ريب فيه " ومرة بقوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين " . وذلك ترك منه لقوله : إن "الم " رافعة "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب " ، وخروج من القول الذي ادعاه في تأويل "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذلك الكتاب " ، وأن تأويل ذلك : هذه الحروف ذلك الكتاب .
فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملا الدلالة على معان كثيرة مختلفة ؟
قيل : كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معان كثيرة مختلفة ، كقولهم للجماعة من الناس : أمة ، وللحين من الزمان : أمة ، وللرجل المتعبد المطيع لله : أمة ، وللدين والملة : أمة . وكقولهم للجزاء والقصاص : دين ، وللسلطان والطاعة : دين ، وللتذلل : دين ، وللحساب : دين ، في أشباه لذلك كثيرة يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد ، وهو مشتمل على معان كثيرة . وكذلك قول الله جل ثناؤه : "الم " و "الر " ، و "المص " وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور ، كل حرف منها دال على معان شتى ، شامل جميعها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسرون من الأقوال التي ذكرناها عنهم . وهن ، مع ذلك ، فواتح السور ، كما قاله من قال ذلك .
[ ص: 222 ] وليس كون ذلك من حروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته ، بمانعها أن تكون للسور فواتح . لأن الله جل ثناؤه قد افتتح كثيرا من سور القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها ، وكثيرا منها بتمجيدها وتعظيمها ، فغير مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها .
فالتي ابتدئ أوائلها بحروف المعجم ، أحد معاني أوائلها : أنهن فواتح ما افتتح بهن من سور القرآن . وهن مما أقسم بهن ، لأن أحد معانيهن أنهن من حروف أسماء الله تعالى ذكره وصفاته ، على ما قدمنا البيان عنها ، ولا شك في صحة معنى القسم بالله وأسمائه وصفاته . وهن من حروف حساب الجمل . وهن للسور التي افتتحت بهن شعار وأسماء . فذلك يحوى معاني جميع ما وصفنا ، مما بينا ، من وجوهه . لأن الله جل ثناؤه لو أراد بذلك ، أو بشيء منه ، الدلالة على معنى واحد مما يحتمله ذلك ، دون سائر المعاني غيره ، لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبانة غير مشكلة . إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما اختلفوا فيه . وفي تركه صلى الله عليه وسلم إبانة ذلك - أنه مراد به من وجوه تأويله البعض دون البعض - أوضح الدليل على أنه مراد به جميع وجوهه التي هو لها محتمل . إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجه منها أن يكون من تأويله ومعناه ، كما كان غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة ، باللفظ الواحد ، في كلام واحد .
ومن أبى ما قلناه في ذلك ، سئل الفرق بين ذلك ، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد ، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة ، كالأمة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال . فلن يقول في أحد من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله .
وكذلك يسأل كل من تأول شيئا من ذلك - على وجه دون الأوجه الأخر
[ ص: 223 ] التي وصفنا - عن البرهان على دعواه ، من الوجه الذي يجب التسليم له . ثم يعارض بقول مخالفه في ذلك ، ويسأل الفرق بينه وبينه : من أصل ، أو مما يدل عليه أصل . فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله .
وأما الذي زعم من النحويين : أن ذلك نظير "بل " في قول المنشد شعرا :
بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا
وأنه لا معنى له ، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطرح - فإنه أخطأ من وجوه شتى
أحدها : أنه وصف الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها ، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين . إذ كانت العرب - وإن كانت قد كانت تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر ب "بل " - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئ شيئا من الكلام ب "الم " و "الر " و "المص " ، بمعنى ابتدائها ذلك ب "بل " . وإذ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن ، بما يعرفون من لغاتهم ، ويستعملون بينهم من منطقهم ، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم ، التي افتتحت بها أوائل السور ، التي هن لها فواتح ، سبيل سائر القرآن ، في أنه لم يعدل بها عن لغاتهم التي كانوا بها عارفين ، ولها بينهم في منطقهم مستعملين . لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتهم ومنطقهم ، كان خارجا عن معنى الإبانة التي وصف الله عز وجل بها القرآن ، فقال تعالى ذكره : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) . وأنى يكون مبينا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين ، في قول قائل هذه المقالة ، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين ، في قوله ؟ وفي إخبار الله جل ثناؤه عنه أنه عربي مبين ، ما يكذب هذه المقالة ، وينبئ عنه أن العرب كانوا به
[ ص: 224 ] عالمين ، وهو لها مستبين . فذلك أحد أوجه خطئه .
والوجه الثاني من خطئه في ذلك : إضافته إلى الله جل ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له ، من الكلام الذي سواء الخطاب فيه به وترك الخطاب به . وذلك إضافة العبث الذي هو منفي في قول جميع الموحدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره .
والوجه الثالث من خطئه : أن "بل " في كلام العرب مفهوم تأويلها ومعناها ، وأنها تدخلها في كلامها رجوعا عن كلام لها قد تقضى كقولهم : ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيت عمرا بل عبد الله ، وما أشبه ذلك من الكلام ، كما قال
أعشى بني ثعلبة :
ولأشربن ثمانيا وثمانيا وثلاث عشرة واثنتين وأربعا
ومضى في كلمته حتى بلغ قوله :
بالجلسان ، وطيب أردانه بالون يضرب لي يكر الإصبعا
ثم قال :
بل عد هذا في قريض غيره واذكر فتى سمح الخليقة أروعا
فكأنه قال : دع هذا وخذ في قريض غيره . ف "بل " إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام ، فأما افتتاحا لكلامها مبتدأ بمعنى التطول والحذف ، من غير أن يدل على معنى ، فذلك مما لا نعلم أحدا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها ، سوى الذي ذكرت قوله ، فيكون ذلك أصلا يشبه به حروف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها - لو كانت له مشبهة - فكيف وهي من الشبه به بعيدة ؟
[ ص: 202 ] [ ص: 203 ] [ ص: 204 ] [ ص: 205 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ أَعِنْ ( الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ )
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ) .
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : اخْتَلَفَتْ تَرَاجِمَةُ الْقُرْآنِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=32450_28973تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ "الم " فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
225 - حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ ، أَخْبَرَنَا
مُعَمِّرٌ ، عَنْ
قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ : "الم " ، قَالَ : اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
226 - حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْآمُلُيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
شِبْلٌ ، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
227 - حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : "الم " ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ فَوَاتِحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
228 - حَدَّثَنِي
هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ الْكُوفِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، فَوَاتِحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ .
[ ص: 206 ]
229 - حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو نَعِيمٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، فَوَاتِحُ .
230 - حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17294يَحْيَى بْنُ آدَمَ ، عَنْ
سُفْيَانَ ، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، وَ "حم " ، وَ "المص " ، وَ "ص " ، فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا .
231 - حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ ، مِثْلَ حَدِيثِ
هَارُونَ بْنِ إِدْرِيسَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
232 - حَدَّثَنِي
nindex.php?page=showalam&ids=17418يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : أَنْبَأَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=16472عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهَبٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ : "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " وَ "الم تَنْزِيلُ " ، وَ "المر تِلْكَ " ، فَقَالَ : قَالَ أَبِي : إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
233 - حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=12166مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ ، قَالَ : سَأَلْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيَّ عَنْ "حم " وَ "طسم " وَ "الم " ، فَقَالَ : قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ .
234 - حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=12166مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنِي
أَبُو النُّعْمَانِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17058مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، قَالَ : قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ فَذِكْرَ نَحْوَهُ .
235 - حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16527عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ : فَوَاتِحُ السُّوَرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
[ ص: 207 ]
236 - حَدَّثَنِي
nindex.php?page=showalam&ids=17324يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ حَدَّثَنِي
مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ .
237 - حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابْنُ عُلَيَّةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
خَالِدٌ الْحَذَّاءُ ، عَنْ
عِكْرِمَةَ ، قَالَ : "الم " ، قَسَمٌ .
[ ص: 208 ]
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ مِنْ أَسْمَاءٍ وَأَفْعَالٍ ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَعْنَى غَيْرِ مَعْنَى الْحَرْفِ الْآخَرِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
238 - حَدَّثَنَا
أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وَكِيعٌ - وَحَدَّثَنَا
سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ
شَرِيكٍ ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ
أَبِي الضُّحَى ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ : "الم " قَالَ : أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ .
239 - حُدِّثْتُ عَنْ
أَبِي عُبَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو الْيَقْظَانِ ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : قَوْلُهُ : "الم " ، قَالَ : أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ .
240 - حَدَّثَنِي
مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ الْقَنَّادُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ
أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ
أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17058مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الم " قَالَ : أَمَّا "الم " فَهُوَ حَرْفٌ اشْتُقَّ مِنْ حُرُوفِ هِجَاءِ أَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ .
241 - حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
عَبَّاسُ بْنُ زِيَادٍ الْبَاهِلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ ، عَنْ
أَبِي بِشْرٍ ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : "الم " وَ "حم " وَ "ن " ، قَالَ : اسْمٌ مُقَطَّعٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ حُرُوفُ هِجَاءٍ مَوْضُوعٍ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
242 - حُدِّثْتُ عَنْ
مَنْصُورِ بْنِ أَبِي نُوَيْرَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ ، عَنْ
خُصَيْفٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ ، قَالَ : فَوَاتِحُ السُّوَرِ كُلُّهَا "ق " وَ "ص " وَ "حم " وَ "طسم " وَ "الر " وَغَيْرُ ذَلِكَ ، هِجَاءٌ مَوْضُوعٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ حُرُوفٌ يَشْتَمِلُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ شَتَّى مُخْتَلِفَةٍ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
243 - حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنِ
الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : "الم " ، قَالَ : هَذِهِ الْأَحْرُفُ ، مِنَ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا ، دَارَتْ فِيهَا الْأَلْسُنُ كُلُّهَا . لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي آلَائِهِ وَبَلَائِهِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ قَوْمِ وَآجَالِهِمْ . وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : "وَعَجِيبٌ يَنْطِقُونَ فِي أَسْمَائِهِ ، وَيَعِيشُونَ فِي رِزْقِهِ ، فَكَيْفَ يَكْفُرُونَ ؟ " . قَالَ : الْأَلْفُ : مِفْتَاحُ اسْمِهِ : "اللَّهُ " ، وَاللَّامُ : مِفْتَاحُ اسْمِهِ : "لَطِيفٌ " ، وَالْمِيمُ : مِفْتَاحُ اسْمِهِ : "مَجِيدٌ " . وَالْأَلْفُ آلَاءُ اللَّهِ ، وَاللَّامُ لُطْفُهُ ، وَالْمِيمُ : مَجَّدُهُ . الْأَلْفُ سَنَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ سَنَةً ، وَالْمِيمَ أَرْبَعُونَ سَنَةً .
244 - حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
حَكَّامٌ ، عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنِ
الرَّبِيعِ بِنَحْوِهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ - كَرِهْنَا ذِكْرَ الَّذِي حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ ، إِذْ كَانَ الَّذِي رَوَاهُ مِمَّنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ وَنَقْلِهِ . وَقَدْ مَضَتِ الرِّوَايَةُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عَنِ
الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ .
[ ص: 209 ]
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِكُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ ، وَسِرُ الْقُرْآنِ فَوَاتِحُهُ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، اسْتُغْنِيَ بِذِكْرٍ مَا ذُكِرَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّورِ عَنْ ذِكْرِ بَوَاقِيهَا ، الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا; كَمَا اسْتَغْنَى الْمُخْبَرُ - عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا - بِذِكْرِ "أ ب ت ث " ، عَنْ ذِكْرِ بَوَاقِي حُرُوفِهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ : قَالَ . وَلِذَلِكَ رُفِعَ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ : الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ مِنْ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ ، ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ مَجْمُوعًا لَا رَيْبَ فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ "أ ب ت ث " ، قَدْ صَارَتْ كَالِاسْمِ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ ، كَمَا كَانَ "الْحَمْدُ " اسْمًا لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ .
قِيلَ لَهُ : لِمَا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : ابْنِي فِي "ط ظ " ، وَكَانَ مَعْلُومًا بِقِيلِهِ ذَلِكَ لَوْ قَالَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخَبَرَ عَنِ ابْنِهِ أَنَّهُ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ - عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ "أ ب ت ث " لَيْسَ لَهَا بِاسْمٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ آثَرَ فِي الذَّكَرِ مِنْ سَائِرِهَا . قَالَ : وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْنَ ذِكْرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ ، فَذُكِرَتْ فِي أَوَائِلِهَا مُخْتَلِفَةً ، وَذِكْرِهَا إِذَا ذُكِّرَتْ بِأَوَائِلِهَا الَّتِي هِيَ "أ ب ت ث " ، مُؤْتَلِفَةً ، لِيَفْصِلَ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهَا إِذَا أُرِيدَ - بِذِكْرٍ مَا ذَكَرَ مِنْهَا مُخْتَلِفًا - الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ; وَإِذَا أُرِيدَ - بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا مُؤْتَلِفًا - الدَّلَالَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بِأَعْيَانِهَا . وَاسْتَشْهَدُوا - لِإِجَازَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ : ابْنِي فِي "ط ظ " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ فِي الْبَيَانِ يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ : ابْنِي فِي "أ ب ت ث " - بِرَجَزِ بَعْضِ الرُّجَّازِ مِنْ
بَنِي أَسَدٍ :
لَمَّا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي حُطِّي وفَنَكَتْ فِي كَذِبٍ ولَطِّ أَخذْتُ مِنْهَا بِقُرُونٍ [ ص: 210 ] شُمْطٍ
فَلَمْ يَزَلْ صَوْبِي بِهَا ومَعْطِي
حَتَّى عَلَا الرَّأْسَ دَمٌ يُغَطِّي
فَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ عَنِ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا فِي "أَبِي جَادٍ " ، فَأَقَامَ قَوْلَهُ : "لِمَا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي حُطِّي " مَقَامَ خَبَرِهِ عَنْهَا أَنَّهَا فِي "أَبِي جَادٍ " ، إِذْ كَانَ ذَاكَ مِنْ قَوْلِهِ ، يَدُلُّ سَامِعَهُ عَلَى مَا يَدُلُّهُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : لِمَا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي "أَبِي جَادٍ " .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ ابْتُدِئَتْ بِذَلِكَ أَوَائِلُ السُّورِ لِيَفْتَحَ لِاسْتِمَاعِهِ أَسْمَاعَ الْمُشْرِكِينَ - إِذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ - حَتَّى إِذَا اسْتَمَعُوا لَهُ ، تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْمُؤَلَّفُ مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ السُّوَرِ حُرُوفٌ يَسْتَفْتِحُ اللَّهُ بِهَا كَلَامَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلْ يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ لَهُ مَعْنَى ؟
قِيلَ : مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ افْتَتَحَ بِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي قَبِلَهَا قَدِ انْقَضَتْ ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي أُخْرَى ، فَجَعَلَ هَذَا عَلَّامَةَ انْقِطَاعٍ مَا بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، يُنْشِدُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الشِّعْرَ فَيَقُولُ :
بَلْ وَبَلْدَةٍ مَا الْإِنْسُ مِنْ آهَالِهَا
وَيَقُولُ :
لَا بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا
وَ "بَلْ " لَيْسَتْ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا تُعَدُّ فِي وَزْنِهِ ، وَلَكِنْ يَقْطَعُ بِهَا كَلَامًا وَيَسْتَأْنِفُ الْآخَرَ .
[ ص: 211 ]
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَهَا الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَجْهٌ مَعْرُوفٌ .
فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : "الم " ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ ، فَلِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنْ "الم " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ ، كَمَا الْفُرْقَانُ اسْمٌ لَهُ . وَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَائِلِ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ . كَأَنَّهُ قَالَ : وَالْقُرْآنِ ، هَذَا الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ .
وَالْآخَرُ مِنْهُمَا : أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ السُّورَةِ الَّتِي تُعَرَفُ بِهِ ، كَمَا تُعْرَفُ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ بِأَسْمَائِهَا الَّتِي هِيَ لَهَا أَمَارَاتٌ تُعَرَفُ بِهَا ، فَيَفْهَمُ السَّامِعُ مِنَ الْقَائِلِ يَقُولُ : - قَرَأْتُ الْيَوْمَ "المص " وَ "ن " - ، أَيِ السُّوَرِ الَّتِي قَرَأَهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، كَمَا يَفْهَمُ عَنْهُ - إِذَا قَالَ : لَقِيتُ الْيَوْمَ عَمْرًا وَزَيْدًا ، وَهَمَّا بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو عَارِفَانِ - مَنِ الَّذِي لَقِيَ مِنَ النَّاسِ .
وَإِنْ أَشْكَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى امْرِئٍ فَقَالَ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، وَنَظَائِرُ "الم " "الر " فِي الْقُرْآنِ جَمَاعَةٌ مِنَ السُّورِ ؟ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْأَسْمَاءُ أَمَارَاتٍ إِذَا كَانَتْ مُمَيِّزَةً بَيْنَ الْأَشْخَاصِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُمَيَّزَةٍ فَلَيْسَتْ أَمَارَاتٍ .
قِيلَ : إِنَّ الْأَسْمَاءَ - وَإِنْ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ ، لِاشْتِرَاكِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا ، غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ إِلَّا بِمَعَانَ أُخَرَ مَعَهَا مِنْ ضَمِّ نِسْبَةِ الْمُسَمَّى بِهَا إِلَيْهَا أَوْ نَعْتِهِ أَوْ صِفَتِهِ ، بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ أَشْكَالِهَا - فَإِنَّهَا وُضِعَتِ ابْتِدَاءً لِلتَّمْيِيزِ لَا شَكَ . ثُمَّ احْتِيجَ ، عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ ، إِلَى الْمَعَانِي الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ بِهَا . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ السُّوَرِ . جُعِلَ كُلُّ اسْمٍ - فِي قَوْلٍ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ - أَمَارَةً لِلْمُسَمَّى بِهِ مِنَ السُّورِ . فَلَمَّا شَارَكَ الْمُسَمَّى بِهِ فِيهِ غَيْرَهُ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، احْتَاجَ الْمُخْبِرُ عَنْ
[ ص: 212 ] سُورَةٍ مِنْهَا أَنْ يَضُمَّ إِلَى اسْمِهَا الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ ذَلِكَ ، مَا يُفَرِّقُ بِهِ السَّامِعُ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا ، مِنْ نَعْتٍ وَصِفَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَيَقُولُ الْمُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ تَلَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، إِذَا سَمَّاهَا بِاسْمِهَا الَّذِي هُوَ "الم " : قَرَأْتُ "الم الْبَقَرَةَ " ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ : قَرَأْتُ "الم آلَ عِمْرَانَ " ، وَ "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَ "الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " . كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخَبَرَ عَنْ رَجُلَيْنِ ، اسْمُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا "عَمْرٌو " ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَمِيمِيٌّ وَالْآخِرَ أَزْدِيٌّ ، لَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَرَادَ إِخْبَارَهُ عَنْهُمَا : لَقِيتُ عَمْرًا التَّمِيمِيَّ وَعَمْرًا الْأَزْدِيَّ ، إِذْ كَانَ لَا يَفْرُقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يُشَارِكُهُمَا فِي أَسْمَائِهِمَا ، إِلَّا بِنِسْبَتِهِمَا كَذَلِكَ . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّورِ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِكَ فَوَاتِحُ يَفْتَتِحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا كَلَامَهُ ، فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى نَحْوِ الْمَعْنَى الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، أَنَّهُ قَالَ : ذَلِكَ أَدِلَّةٌ عَلَى انْقِضَاءٍ سُورَةٍ وَابْتِدَاءٍ فِي أُخْرَى ، وَعَلَامَةٌ لِانْقِطَاعٍ مَا بَيْنَهُمَا ، كَمَا جُعِلَتْ "بَلْ " فِي ابْتِدَاءِ قَصِيدَةٍ دَلَالَةً عَلَى ابْتِدَاءٍ فِيهَا ، وَانْقِضَاءِ أُخْرَى قَبْلَهَا كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادُوا الِابْتِدَاءَ فِي إِنْشَادِ قَصِيدَةٍ ، قَالُوا :
بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا
وَ "بَلْ " لَيْسَتْ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا دَاخِلَةً فِي وَزْنِهِ ، وَلَكِنْ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى قَطْعِ كَلَامٍ وَابْتِدَاءِ آخَرَ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِكَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ بَعْضُهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَبَعْضُهَا مِنْ صِفَاتِهِ ، وَلِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى الْحَرْفِ الْآخَرِ ، فَإِنَّهُمْ نَحَوْا بِتَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ :
قُلْنَا لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافْ لَا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَافْ
[ ص: 213 ]
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : "قَالَتْ قَافٌ " ، قَالَتْ : قَدْ وَقَفْتُ . فَدَلَّتْ بِإِظْهَارِ الْقَافِ مَنْ "وَقَفَتْ " ، عَلَى مُرَادِهَا مِنْ تَمَامِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ "وَقَفْتُ" . فَصَرَفُوا قَوْلَهُ : "الم " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، إِلَى نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَلِفُ أَلِفُ "أَنَا " ، وَاللَّامُ لَامُ "اللَّهُ " ، وَالْمِيمُ مِيمُ "أَعْلَمُ " ، وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى كَلِمَةٍ تَامَّةٍ . قَالُوا : فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ إِذَا ظَهَرَ مَعَ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُنَّ تَمَامُ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ ، "أَنَا " اللَّهُ أَعْلَمُ " . قَالُوا : وَكَذَلِكَ سَائِرُ جَمِيعِ مَا فِي أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ ، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ . قَالُوا : وَمُسْتَفِيضٌ ظَاهِرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُنْقِصَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ مَنَ الْكَلِمَةِ الْأَحْرُفَ ، إِذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا حَذَفَ مِنْهَا - وَيَزِيدَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ، إِذَا لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُلَبِّسَةً مَعْنَاهَا عَلَى سَامِعِهَا - كَحَذْفِهِمْ فِي النَّقْصِ فِي التَّرْخِيمِ مِنْ "حَارِثٍ " الثَّاءَ ، فَيَقُولُونَ : يَا حَارِ ، وَمِنْ "مَالِكٍ " الْكَافَ ، فَيَقُولُونَ : يَا مَالِ ، وَأَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ ، وَكَقَوْلِ رَاجِزِهِمْ :
مَا لِلظَلِيمِ عَالَ ؟ كَيْفَ لَا يَا يَنْقَدُّ عَنْهُ جِلْدُهُ إِذَا يَا
كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : إِذَا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ، فَاكْتَفَى بِالْيَاءِ مَنْ "يَفْعَلُ " ، وَكَمَا قَالَ آخَرُ مِنْهُمْ :
بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإِنْ شَرًّا فَا
يُرِيدُ : فَشَرًّا .
وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا
.
يُرِيدُ : إِلَّا أَنْ تَشَاءَ ، فَاكْتَفَى بِالتَّاءِ وَالْفَاءِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ جَمِيعًا ، مِنْ سَائِرِ حُرُوفِهِمَا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ الَّتِي يَطُولُ الْكِتَابُ بِاسْتِيعَابِهِ .
[ ص: 214 ]
245 - وَكَمَا حَدَّثَنِي
يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ
أَيُّوبَ ، nindex.php?page=showalam&ids=16453وَابْنُ عَوْنٍ ، عَنْ
مُحَمَّدٍ ، قَالَ : لَمَّا مَاتَ
يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِي عَبْدَةُ : إِنِّي لَا أَرَاهَا إِلَّا كَائِنَةً فِتْنَةً ، فَافْزَعْ مِنْ ضَيْعَتِكَ وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ . قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : أَحَبُّ إِلَيَّ لَكَ أَنْ تَا - قَالَ
أَيُّوبُ nindex.php?page=showalam&ids=16453وَابْنُ عَوْنٍ بَيْدِهِ تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ ، يَصِفُ الِاضْطِجَاعَ - حَتَّى تَرَى أَمْرًا تَعْرِفُهُ .
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : يَعْنِي بِ "تَا " تَضْطَجِعُ ، فَاجْتَزَأَ بِالتَّاءِ مَنْ تَضْطَجِعُ . وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفْتُ :
أَقُولُ إِذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ يَا نَاقَتِي مَا جُلْتِ مِنْ مَجَالِ
يُرِيدُ : الْكَلْكَلُ ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ :
إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَكَ شَتَّى فَالْزَمِي الْخُصَّ وَاخْفِضِي تَبْيَضِّضِي
.
فَزَادَ ضَادًا ، وَلَيْسَتْ فِي الْكَلِمَةِ .
قَالُوا : فَكَذَلِكَ مَا نَقَصَ مِنْ تَمَامِ حُرُوفِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَتِمَّةُ حُرُوفِ "الم " وَنَظَائِرُهَا - نَظِيرُ مَا نَقَصَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ الْعَرَبِ فِي أَشْعَارِهَا وَكَلَامِهَا .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : كُلُّ حَرْفٍ مِنْ "الم " وَنَظَائِرُهَا ، دَالٌّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى -
[ ص: 215 ] نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ
الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ - فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى مِثْلِ الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَيْهِ مَنْ قَالَ : هُوَ بِتَأْوِيلِ "أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ " ، فِي أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ بَعْضُ حُرُوفِ كَلِمَةٍ تَامَّةٍ ، اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَامِهِ عَنْ ذِكْرِ تَمَامِهِ - وَإِنْ كَانُوا لَهُ مُخَالِفِينَ فِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ : أَهْوَ مِنَ الْكَلِمَةِ الَّتِي ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهَا قَائِلُو الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، أَمْ مِنْ غَيْرِهَا ؟ فَقَالُوا : بَلِ الْأَلْفُ مِنْ "الم " مِنْ كَلِمَاتٍ شَتَّى ، هِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَعَلَى تَمَامِهِ . قَالُوا : وَإِنَّمَا أَفْرَدَ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَصَّرَ بِهِ عَنْ تَمَامِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ ، أَنَّ جَمِيعَ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ لَوْ أُظْهِرَتْ ، لَمْ تَدُلَّ الْكَلِمَةُ الَّتِي تُظْهَرُ - الَّتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بَعْضٌ لَهَا - إِلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمَا . قَالُوا : وَإِذْ كَانَ لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ ، لَوْ أَظْهَرَ جَمِيعَهَا ، إِلَّا عَلَى مَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ ، وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَرَادَ الدَّلَالَةَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ - لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُفْرَدَ الْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي ، لِيَعْلَمَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْصِدْ قَصْدَ مَعْنًى وَاحِدٍ وَدَلَّالَةٍ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الدَّلَالَةَ بِهِ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ . قَالُوا : فَالْأَلِفُ مِنْ "الم " مُقْتَضِيَةٌ مَعَانِيَ كَثِيرَةً ، مِنْهَا تَمَامُ اسْمِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ "اللَّهُ " ، وَتَمَامُ اسْمِ نَعْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ آلَاءُ اللَّهِ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ سَنَةٌ ، إِذَا كَانَتِ الْأَلِفُ فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ وَاحِدًا . وَاللَّامُ مُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ لَطِيفٌ ، وَتَمَامَ اسْمَ فَضْلِهِ الَّذِي هُوَ لُطْفٌ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً . وَالْمِيمُ مُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَجِيدٌ ، وَتَمَامَ اسْمِ عَظَمَتِهِ الَّتِي هِيَ مَجْدٌ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً . فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ - فِي تَأْوِيلِ قَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ - أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ افْتَتَحَ كَلَامَهُ بِوَصْفِ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ مَنْهَجًا يَسْلُكُونَهُ فِي مُفْتَتَحِ خُطَبِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ وَمُهِمِّ أُمُورِهِمْ ، وَابْتِلَاءً مِنْهُ لَهُمْ لِيَسْتَوْجِبُوا بِهِ عَظِيمَ الثَّوَابِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ ، .
كَمَا افْتَتَحَ بِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ) ، سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 1
[ ص: 216 ] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحَهَا الْحَمْدَ لِنَفْسِهِ ، وَكَمَا جَعَلَ مَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَعْظِيمَ نَفْسِهِ وَإِجْلَالَهَا بِالتَّسْبِيحِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ) سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 1 ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَحْمِيدَ نَفْسِهِ ، وَمَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَمْجِيدَهَا ، وَمَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَعْظِيمَهَا وَتَنْزِيهَهَا . فَكَذَلِكَ جَعَلَ مَفَاتِحَ السُّورِ الْأُخَرِ الَّتِي أَوَائِلُهَا بَعْضُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، مَدَائِحَ نَفْسِهِ ، أَحْيَانًا بِالْعِلْمِ ، وَأَحْيَانًا بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، وَأَحْيَانًا بِالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ ، بِإِيجَازٍ وَاخْتِصَارٍ ، ثُمَّ اقْتِصَاصَ الْأُمُورِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ فِي أَمَاكِنِ الرَّفْعِ ، مَرْفُوعًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، دُونَ قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، وَيَكُونُ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " خَبَرًا مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا عَنْ مَعْنَى "الم " . وَكَذَلِكَ "ذَلِكَ " فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي ، مَرْفُوعٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِ قَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : هُنَّ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ حِسَابِ الْجُمَلِ دُونَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَا نَعْرِفُ لِلْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ مَعْنًى يُفْهَمُ سِوَى حِسَابِ الْجُمَلِ ، وَسِوَى تَهَجِّي قَوْلِ الْقَائِلِ : "الم " . وَقَالُوا : غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَيَعْقِلُونَهُ عَنْهُ . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - وَكَانَ قَوْلُهُ "الم " لَا يُعْقَلُ لَهَا وَجْهٌ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ ، إِلَّا أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ، فَبَطَلَ أَحَدُ وَجْهَيْهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا تَهَجِّي "الم " - صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ حِسَابُ الْجُمَلِ; لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : "الم " لَا يَجُوزُ أَنْ يَلِيَهُ مِنَ الْكَلَامِ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ ، إِنْ وَلِيَ "الم " "ذَلِكَ الْكِتَابُ " .
وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا : -
246 - حَدَّثَنَا بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=16949مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=13655سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
الْكَلْبِيُّ ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ ، قَالَ :
مَرَّ [ ص: 217 ] أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ) ، فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ مِنْ يَهُودَ فَقَالَ : تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ ، لَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) فَقَالُوا : أَنْتَ سَمِعْتَهُ ؟ قَالَ : نَعِمَ! قَالَ : فَمَشَى حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ يَهُودَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، أَلَمْ يُذْكَرْ لَنَا أَنَّكَ تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلَى! فَقَالُوا : أَجَاءَكَ بِهَذَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعِمَ! قَالُوا : لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءُ ، مَا نَعْلَمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ ، مَا مُدَّةَ مِلْكِهِ وَمَا أَكْلَ أُمَّتَهُ غَيْرَكَ! فَقَالَ : حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ : الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً . أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينِ نَبِيٍّ إِنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَكْلِ أُمَّتِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ : ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ ؟ قَالَ : نَعِمَ ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : ( المص ) . قَالَ : هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ ، الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ ، وَالصَّادُ تِسْعُونَ ، فَهَذِهِ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً . هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ ؟ قَالَ : نَعِمَ ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : ( الر ) . قَالَ : هَذِهِ [ ص: 218 ] [ ص: 219 ] وَاللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ . الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ ، فَقَالَ : هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ : نَعِمَ ، ( المر ) ، قَالَ : فَهَذِهِ وَاللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ . ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ يَا مُحَمَّدُ ، حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلَا أَعْطَيْتَ أَمْ كَثِيرًا ؟ ثُمَّ قَامُوا عَنْهُ . فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيِّيَ بُنِ أَخْطَبَ ، وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْبَارِ : مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلُّهُ لِمُحَمَّدٍ ، إِحْدَى وَسَبْعُونَ ، وَإِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ ، وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ ، وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ ، فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ! فَقَالُوا : لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ! وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) . [ ص: 220 ]
قَالُوا : فَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْخَبَرُ بِصِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ ، وَفَسَادِ مَا قَالَهُ مُخَالِفُونَا فِيهِ .
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ مَفَاتِحِ السُّورِ ، الَّتِي هِيَ حُرُوفُ الْمُعْجَمِ : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَهَا حُرُوفًا مُقَطَّعَةً وَلَمْ يَصِلْ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ - فَيَجْعَلُهَا كَسَائِرِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ الْحُرُوفُ - لِأَنَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَةَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ، لَا عَلَى مَعْنَى وَاحِدٍ ، كَمَا قَالَ
الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ . وَإِنْ كَانَ
الرَّبِيعُ قَدِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ ، دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا .
وَالصَّوَابُ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ عِنْدِي : أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ يَحْوِي مَا قَالَهُ
الرَّبِيعُ ، وَمَا قَالَهُ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُهُ فِيهِ - سِوَى مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْقَوْلِ عَمَّنْ ذَكَرَتْ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ : أَنَّهُ كَانَ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ حُرُوفُ هِجَاءٍ ، اسْتُغْنِيَ
[ ص: 221 ] بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ فِي مَفَاتِيحِ السُّورِ ، عَنْ ذِكْرِ تَتِمَّةِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، بِتَأْوِيلِ : أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ ، ذَلِكَ الْكِتَابُ ، مَجْمُوعَةٌ ، لَا رَيْبَ فِيهِ - فَإِنَّهُ قَوْلٌ خَطَّأٌ فَاسِدٌ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ أَقْوَالِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ . فَكَفَى دَلَالَةً عَلَى خَطَئِهِ ، شَهَادَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالْخَطَأِ ، مَعَ إِبْطَالِ قَائِلِ ذَلِكَ قَوْلَهُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ - إِذْ صَارَ إِلَى الْبَيَانِ عَنْ رَفْعِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ " - بِقَوْلِهِ مَرَّةً إِنَّهُ مَرْفُوعٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ ، وَمَرَّةً أُخْرَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالرَّاجِعِ مِنْ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2لَا رَيْبَ فِيهِ " وَمَرَّةً بِقَوْلِهِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " . وَذَلِكَ تَرْكٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ : إِنَّ "الم " رَافِعَةٌ "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَخُرُوجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي ادَّعَاهُ فِي تَأْوِيلِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ : هَذِهِ الْحُرُوفُ ذَلِكَ الْكِتَابُ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرْفٌ وَاحِدٌ شَامِلًا الدَّلَالَةَ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ ؟
قِيلَ : كَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ ، كَقَوْلِهِمْ لِلْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ : أُمَّةٌ ، وَلِلْحِينِ مِنَ الزَّمَانِ : أُمَّةٌ ، وَلِلرَّجُلِ الْمُتَعَبِّدِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ : أُمَّةٌ ، وَلِلدِّينِ وَالْمِلَّةِ : أُمَّةٌ . وَكَقَوْلِهِمْ لِلْجَزَاءِ وَالْقِصَاصِ : دِينٌ ، وَلِلسُّلْطَانِ وَالطَّاعَةِ : دِينٌ ، وَلِلتَّذَلُّلِ : دِينٌ ، وَلِلْحِسَابِ : دِينٌ ، فِي أَشْبَاهٍ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ الْكِتَابُ بِإِحْصَائِهَا - مِمَّا يَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : "الم " وَ "الر " ، وَ "المص " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ أَوَائِلِ السُّوَرِ ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى ، شَامِلٌ جَمِيعَهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ . وَهُنَّ ، مَعَ ذَلِكَ ، فَوَاتِحُ السُّوَرِ ، كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ .
[ ص: 222 ] وَلَيْسَ كَوْنٌ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ أَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصِفَاتِهِ ، بِمَانِعِهَا أَنْ تَكُونَ لِلسُّورِ فَوَاتِحَ . لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدِ افْتَتَحَ كَثِيرًا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا ، وَكَثِيرًا مِنْهَا بِتَمْجِيدِهَا وَتَعْظِيمِهَا ، فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَبْتَدِئَ بَعْضَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِهَا .
فَالَّتِي ابْتُدِئَ أَوَائِلُهَا بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، أَحَدُ مَعَانِي أَوَائِلِهَا : أَنَّهُنَّ فَوَاتِحُ مَا افْتَتَحَ بِهِنَّ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ . وَهُنَّ مِمَّا أَقْسَمَ بِهِنَّ ، لِأَنَّ أَحَدَ مَعَانِيهِنَّ أَنَّهُنَّ مِنْ حُرُوفِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَصِفَاتِهِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهَا ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَى الْقَسَمِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . وَهُنَّ مَنَّ حُرُوفِ حِسَابِ الْجُمَّلِ . وَهُنَّ لِلسُّوَرِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهِنَّ شِعَارٌ وَأَسْمَاءٌ . فَذَلِكَ يُحْوَى مَعَانِيَ جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ، مِمَّا بَيَّنَا ، مِنْ وُجُوهِهِ . لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، الدَّلَالَةَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ ذَلِكَ ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي غَيْرِهِ ، لَأَبَانَ ذَلِكَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبَانَةً غَيْرَ مُشْكِلَةٍ . إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَفِي تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبَانَةَ ذَلِكَ - أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ مِنْ وُجُوهِ تَأْوِيلِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ - أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ وُجُوهِهِ الَّتِي هُوَ لَهَا مُحْتَمَلٌ . إِذْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا فِي الْعَقْلِ وَجْهٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَمَعْنَاهُ ، كَمَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ اجْتِمَاعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ ، بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ ، فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ .
وَمِنْ أَبَى مَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ ، سُئِلَ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَأْتِي بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ ، كَالْأُمَّةِ وَالدِّينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ . فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مَثْلَهُ .
وَكَذَلِكَ يُسْأَلُ كُلُّ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ - عَلَى وَجْهٍ دُونَ الْأَوْجُهِ الْأُخَرِ
[ ص: 223 ] الَّتِي وَصَفْنَا - عَنِ الْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُ ، مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ . ثُمَّ يُعَارَضُ بِقَوْلِ مُخَالِفِهِ فِي ذَلِكَ ، وَيُسْأَلُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ : مِنْ أَصْلٍ ، أَوْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلٌ . فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مَثْلَهُ .
وَأَمَّا الَّذِي زَعَمَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ : أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ "بَلْ " فِي قَوْلِ الْمُنْشِدِ شِعْرًا :
بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا
وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْكَلَامِ مَعْنَاهُ الطَّرْحُ - فَإِنَّهُ أَخْطَأَ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى
أَحَدُهَا : أَنَّهُ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَرَبَ بِغَيْرِ مَا هُوَ مِنْ لُغَتِهَا ، وَغَيْرِ مَا هُوَ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ . إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ - وَإِنْ كَانَتْ قَدْ كَانَتْ تَفْتَتِحُ أَوَائِلَ إِنْشَادِهَا مَا أَنْشَدَتْ مِنَ الشِّعْرِ بِ "بَلْ " - فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَبْتَدِئُ شَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ بِ "الم " وَ "الر " وَ "المص " ، بِمَعْنَى ابْتِدَائِهَا ذَلِكَ بِ "بَلْ " . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنِ ابْتِدَائِهَا - وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ ، بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَاتِهِمْ ، وَيَسْتَعْمِلُونَ بَيْنَهُمْ مِنْ مَنْطِقِهِمْ ، فِي جَمِيعِ آيِهِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ سَبِيلَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا أَوَائِلُ السُّوَرِ ، الَّتِي هُنَّ لَهَا فَوَاتِحُ ، سَبِيلُ سَائِرِ الْقُرْآنِ ، فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بِهَا عَنْ لُغَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا بِهَا عَارِفِينَ ، وَلَهَا بَيْنُهُمْ فِي مَنْطِقِهِمْ مُسْتَعْمِلِينِ . لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سَبِيلِ لُغَاتِهِمْ وَمَنْطِقِهِمْ ، كَانَ خَارِجًا عَنْ مَعْنَى الْإِبَانَةِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا الْقُرْآنَ ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) . وَأَنَّى يَكُونُ مُبِينًا مَا لَا يَعْقِلُهُ وَلَا يَفْقَهُهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ ، فِي قَوْلِ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ، وَلَا يُعْرَفُ فِي مَنْطِقِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ، فِي قَوْلِهِ ؟ وَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ، مَا يُكَذِّبُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ، وَيُنْبِئُ عَنْهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا بِهِ
[ ص: 224 ] عَالِمِينَ ، وَهُوَ لَهَا مُسْتَبِينٌ . فَذَلِكَ أَحَدُ أَوْجُهِ خَطَئِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ : إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ خَاطَبَ عِبَادَهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لَهُ ، مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي سَوَاءٌ الْخِطَابُ فِيهِ بِهِ وَتَرْكُ الْخَطَّابِ بِهِ . وَذَلِكَ إِضَافَةُ الْعَبَثِ الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ عَنِ اللَّهِ - إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ خَطَئِهِ : أَنْ "بَلْ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَفْهُومٌ تَأْوِيلِهَا وَمَعْنَاهَا ، وَأَنَّهَا تُدْخِلُهَا فِي كَلَامِهَا رُجُوعًا عَنْ كَلَامٍ لَهَا قَدْ تَقَضَّى كَقَوْلِهِمْ : مَا جَاءَنِي أَخُوكَ بَلْ أَبُوكَ ; وَمَا رَأَيْتُ عَمْرًا بَلْ عَبْدَ اللَّهِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ ، كَمَا قَالَ
أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ :
وَلَأَشْرَبَنَّ ثَمَانِيًا وَثَمَانِيًا وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَاثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعَا
وَمَضَى فِي كَلِمَتِهِ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ :
بِالْجُلَّسَانِ ، وَطَيِّبٌ أَرْدَانُهُ بِالْوَنِّ يَضْرِبُ لِي يَكُرُّ الْإِصْبَعَا
ثُمَّ قَالَ :
بَلْ عَدِّ هَذَا فِي قَرِيضٍ غَيْرِهِ وَاذْكُرْ فَتًى سَمْحَ الْخَلِيقَةِ أَرْوَعَا
فَكَأَنَّهُ قَالَ : دَعْ هَذَا وَخُذْ فِي قَرِيضِ غَيْرِهِ . فَ "بَلْ " إِنَّمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْكَلَامِ ، فَأَمَّا افْتِتَاحًا لِكَلَامِهَا مُبْتَدَأً بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ وَالْحَذْفِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ادَّعَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَنْطِقِهَا ، سِوَى الَّذِي ذَكَرْتُ قَوْلَهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَصْلًا يُشَبَّهُ بِهِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ سُوَرِ الْقُرْآنِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا - لَوْ كَانَتْ لَهُ مُشْبِهَةً - فَكَيْفَ وَهِيَ مِنَ الشَّبَهِ بِهِ بَعِيدَةٌ ؟