[ ص: 483 ] القول في
nindex.php?page=treesubj&link=28992_31904_31906_28965تأويل قوله تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ( 83 )
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ( 84 ) )
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر
أيوب يا
محمد ، إذ نادى ربه وقد مسه الضر والبلاء (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له ) يقول تعالى ذكره : فاستجبنا
لأيوب دعاءه إذ نادانا ، فكشفنا ما كان به من ضر وبلاء وجهد ، وكان الضر الذي أصابه والبلاء الذي نزل به امتحانا من الله له واختبارا .
وكان سبب ذلك كما حدثني
محمد بن سهل بن عسكر البخاري قال : ثنا
إسماعيل بن عبد الكريم بن هشام قال : ثني
عبد الصمد بن معقل ، قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه يقول : كان بدء
nindex.php?page=treesubj&link=31906_31904_28965_31788أمر أيوب الصديق صلوات الله عليه ، أنه كان صابرا نعم العبد ، قال
وهب : إن
لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة من الله والفضيلة عنده ، وإن
جبريل هو الذي يتلقى الكلام ، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه
جبرائيل منه ، ثم تلقاه
ميكائيل ، وحوله الملائكة المقربون حافين من حول العرش ، وشاع ذلك في الملائكة المقربين ، صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السماوات ، فإذا صلت عليه ملائكة السماوات ، هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض ، وكان إبليس لا يحجب بشيء من السماوات ، وكان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا . ومن
[ ص: 484 ] هنالك وصل إلى
آدم حين أخرجه من الجنة ، فلم يزل على ذلك يصعد في السماوات ، حتى رفع الله
عيسى ابن مريم ، فحجب من أربع ، وكان يصعد في ثلاث ، فلما بعث الله
محمدا صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث الباقية ، فهو محجوب هو وجميع جنوده من جميع السماوات إلى يوم القيامة (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=18إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ) ولذلك أنكرت الجن ما كانت تعرف حين قالت : (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=8وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا ) . . . إلى قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=9شهابا رصدا ) .
قال
وهب : فلم يرع إبليس إلا تجاوب ملائكتها بالصلاة على
أيوب ، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه ، فلما سمع إبليس صلاة الملائكة ، أدركه البغي والحسد ، وصعد سريعا حتى وقف من الله مكانا كان يقفه ، فقال : يا إلهي ، نظرت في أمر عبدك
أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك ، ثم لم تجربه بشدة ولم تجربه ببلاء ، وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك ولينسينك وليعبدن غيرك ، قال الله تبارك وتعالى له : انطلق ، فقد سلطتك على ماله ، فإنه الأمر الذي تزعم أنه من أجله يشكرني ، ليس لك سلطان على جسده ، ولا على عقله ، فانقض عدو الله حتى وقع على الأرض ، ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم ، وكان
لأيوب البشنية من
الشام كلها بما فيها من شرقها وغربها ، وكان له بها ألف شاة برعاتها وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ومال ، وحمل آلة كل فدان أتان ، لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك ، فلما جمع إبليس الشياطين ، قال لهم : ماذا عندكم من القوة والمعرفة ؟ فإني قد سلطت على مال
أيوب ، فهي المصيبة الفادحة ، والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال ، قال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار فأحرقت كل شيء آتي عليه ، فقال له إبليس : فأت الإبل ورعاتها ، فانطلق يؤم الإبل ، وذلك حين وضعت رءوسها وثبتت في مراعيها ، فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السموم ، لا يدنو منها أحد إلا احترق فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها ، فلما فرغ منها تمثل إبليس على قعود منها
[ ص: 485 ] براعيها ، ثم انطلق يؤم
أيوب حتى وجده قائما يصلي ، فقال : يا
أيوب ، قال : لبيك ، قال : هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعاتها ؟ قال
أيوب : إنها ماله أعارنيه ، وهو أولى به إذا شاء نزعه ، وقديما ما وطنت نفسي ومالي على الفناء ، قال إبليس : وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتها ، حتى أتى على آخر شيء منها ومن رعاتها ، فتركت الناس مبهوتين ، وهم وقوف عليها يتعجبون ، منهم من يقول : ما كان
أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وليه ، ومنهم من يقول : بل هو فعل الذي فعل ليشمت به عدوه ، وليفجع به صديقه ، قال
أيوب : الحمد لله حين أعطاني ، وحين نزع مني ، عريانا خرجت من بطن أمي ، وعريانا أعود في التراب ، وعريانا أحشر إلى الله ، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله وتجزع حين قبض عاريته ، الله أولى بك ، وبما أعطاك ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع ملك الأرواح ، فآجرني فيك وصرت شهيدا ، ولكنه علم منك شرا فأخرك من أجله ، فعراك الله من المصيبة ، وخلصك من البلاء كما يخلص الزوان من القمح الخلاص .
ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال لهم : ماذا عندكم من القوة ، فإني لم أكلم قلبه ؟ قال عفريت من عظمائهم عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه ، قال له إبليس : فأت الغنم ورعاتها ، فانطلق يؤم الغنم ورعاتها ، حتى إذا وسطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ورعائها ، ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء ، حتى إذا جاء
أيوب وجده وهو قائم يصلي ، فقال له القول الأول ، ورد عليه
أيوب الرد الأول ، ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه ، فقال لهم : ماذا عندكم من القوة ، فإني لم أكلم قلب
أيوب ؟ فقال عفريت من عظمائهم : عندي من القوة إذا شئت تحولت ريحا عاصفا تنسف كل شيء تأتي عليه ، حتى لا أبقي شيئا ، قال له
[ ص: 486 ] إبليس : فأت الفدادين والحرث ، فانطلق يؤمهم ، وذلك حين قربوا الفدادين وأنشئوا في الحرث ، والأتن وأولادها رتوع ، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف تنسف كل شيء من ذلك ، حتى كأنه لم يكن ، ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الحرث ، حتى جاء
أيوب وهو قائم يصلي ، فقال له مثل قوله الأول ، ورد عليه
أيوب مثل رده الأول .
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ، ولم ينجح منه ، صعد سريعا ، حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه ، فقال : يا إلهي إن
أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده ، فأنت معطيه المال ، فهل أنت مسلطي على ولده ؟ فإنها الفتنة المضلة ، والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ، ولا يقوى عليها صبرهم ، فقال الله تعالى له : انطلق ، فقد سلطتك على ولده ، ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده ، ولا على عقله ، فانقض عدو الله جوادا ، حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم ، فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ، ثم جعل يناطح الجدر بعضها ببعض ، ويرميهم بالخشب والجندل ، حتى إذا مثل بهم كل مثلة ، رفع بهم القصر ، حتى إذا أقله بهم فصاروا فيه منكسين ، انطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه ، متغيرا لا يكاد يعرف من شدة التغير والمثلة التي جاء متمثلا فيها ، فلما نظر إليه
أيوب هاله ، وحزن ودمعت عيناه ، وقال له : يا
أيوب ، لو رأيت كيف أفلت من حيث أفلت ، والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا ، ولو رأيت بنيك كيف عذبوا ، وكيف مثل بهم ، وكيف قلبوا فكانوا منكسين على رءوسهم ، تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم ، وتقطر من أشفارهم ، ولو رأيت كيف شقت بطونهم ، فتناثرت أمعاؤهم ، ولو رأيت كيف قذفوا بالخشب والجندل يشدخ دماغهم ، وكيف دق الخشب عظامهم ، وخرق جلودهم ، وقطع عصبهم ، ولو رأيت العصب عريانا ، ولو رأيت العظام متهشمة في الأجواف ، ولو رأيت الوجوه مشدوخة ، ولو رأيت الجدر تناطح عليهم ، ولو رأيت ما رأيت ، قطع قلبك ، فلم يزل يقول هذا ونحوه ، ولم يزل يرققه حتى رق
أيوب فبكى ، وقبض قبضة
[ ص: 487 ] من تراب ، فوضعها على رأسه ، فاغتنم إبليس ( الفرصة منه ) عند ذلك ، فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به ، ثم لم يلبث
أيوب أن فاء وأبصر ، فاستغفر ، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه ، فبدروا إبليس إلى الله ، فوجدوه قد علم بالذي رفع إليه من توبة
أيوب ، فوقف إبليس خازيا ذليلا فقال : يا إلهي ، إنما هون على أيوب خطر المال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه ، فأنت تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده ؟ فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك ، وليكفرن بك ، وليجحدنك نعمتك ، قال الله : انطلق فقد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ، ولا على عقله .
فانقض عدو الله جوادا ، فوجد
أيوب ساجدا ، فعجل قبل أن يرفع رأسه ، فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه ، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده فترهل ، ونبتت ( به ) : ثآليل مثل أليات الغنم ، ووقعت فيه حكة لا يملكها ، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حك بالعظام ، وحك بالحجارة الخشنة ، وبقطع المسوح الخشنة ، فلم يزل يحكه حتى نفد لحمه وتقطع ، ولما نغل جلد
أيوب وتغير وأنتن ، أخرجه أهل القرية ، فجعلوه على تل وجعلوا له عريشا ، ورفضه خلق الله غير امرأته ، فكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه ، وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه ، فلما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه من غير أن يتركوا دينه واتهموه ، يقال لأحدهم بلدد ، وأليفز ، وصافر ، قال : فانطلق إليه الثلاثة ، وهو في بلائه ، فبكتوه : فلما سمع منهم أقبل على ربه ، فقال أيوب صلى الله عليه وسلم : رب لأي شيء خلقتني ؟ لو كنت إذ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني ، يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ، ويا ليتني مت في بطنها ، فلم أعرف شيئا ولم تعرفني ، ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري ، وما العمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني ، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي ، فالموت كان أجمل بي ، فأسوة لي بالسلاطين الذي صفت من دونهم الجيوش ،
[ ص: 488 ] يضربون عنهم بالسيوف بخلا بهم عن الموت ، وحرصا على بقائهم ، أصبحوا في القبور جاثمين ، حتى ظنوا أنهم سيخلدون ، وأسوة لي بالملوك الذين كنزوا الكنوز ، وطمروا المطامير ، وجمعوا الجموع ، وظنوا أنهم سيخلدون ، وأسوة لي بالجبارين الذين بنوا المدائن والحصون ، وعاشوا فيها المئين من السنين ، ثم أصبحت خرابا ، مأوى للوحوش ، ومثنى للشياطين .
قال
أليفز التيماني : قد أعيانا أمرك يا
أيوب ، إن كلمناك فما نرج للحديث منك موضعا ، وإن نسكت عنك مع الذي نرى فيك من البلاء ، فذلك علينا ، قد كنا نرى من أعمالك أعمالا كنا نرجو لك عليها من الثواب غير ما رأينا ، فإنما يحصد امرؤ ما زرع ، ويجزى بما عمل ، أشهد على الله الذي لا يقدر قدر عظمته ، ولا يحصى عدد نعمه ، الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الميت ، ويرفع به الخافض ، ويقوي به الضعيف ، الذي تضل حكمة الحكماء عند حكمته ، وعلم العلماء عند علمه ، حتى تراهم من العي في ظلمة يموجون ، أن من رجا معونة الله هو القوي ، وأن من توكل عليه هو المكفي ، هو الذي يكسر ويجبر ويجرح ويداوي .
قال
أيوب : لذلك سكت فعضضت على لساني ، ووضعت لسوء الخدمة رأسي ، لأني علمت أن عقوبته غيرت نور وجهي ، وأن قوته نزعت قوة جسدي ، فأنا عبده ، ما قضى علي أصابني ، ولا قوة لي إلا ما حمل علي ، لو كانت عظامي من حديد ، وجسدي من نحاس ، وقلبي من حجارة ، لم أطق هذا الأمر ، ولكن هو ابتلاني ، وهو يحمله عني ، أتيتموني غضابا ، رهبتم قبل أن تسترهبوا ، وبكيتم من قبل أن تضربوا ، كيف بي لو قلت لكم : تصدقوا عني بأموالكم ، لعل الله أن يخلصني ، أو قربوا عني قربانا لعل الله أن يتقبله مني ويرضى عني ، إذا استيقظت تمنيت النوم رجاء أن أستريح ، فإذا نمت كادت تجود نفسي ، تقطعت أصابعي ، فإني لأرفع اللقمة من الطعام بيدي جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني ، تساقطت لهواتي ونخر رأسي ، فما بين أذني من سداد حتى إن إحداهما لترى من الأخرى ، وإن دماغي ليسيل من فمي ، تساقط شعري عني ، فكأنما حرق بالنار وجهي ، وحدقتاي هما متدليتان على
[ ص: 489 ] خدي ، ورم لساني حتى ملأ فمي ، فما أدخل فيه طعاما إلا غصني ، وورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي ، والسفلى ذقني ، تقطعت أمعائي في بطني ، فإني لأدخل الطعام فيخرج كما دخل ، ما أحسه ولا ينفعني ، ذهبت قوة رجلي ، فكأنهما قربتا ماء ملئتا ، لا أطيق حملهما ، أحمل لحافي بيدي وأسناني ، فما أطيق حمله حتى يحمله معي غيري ، ذهب المال فصرت أسأل بكفي ، فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة ، فيمنها علي ويعيرني ، هلك بني وبناتي ، ولو بقي منهم أحد أعانني على بلائي ونفعني ، وليس العذاب بعذاب الدنيا ، إنه يزول عن أهلها ويموتون عنه ، ولكن طوبى لمن كانت له راحة في الدار التي لا يموت أهلها ، ولا يتحولون عن منازلهم ، السعيد من سعد هنالك والشقي من شقي فيها .
قال
بلدد : كيف يقوم لسانك بهذا القول ، وكيف تفصح به ، أتقول إن العدل يجور ، أم تقول إن القوي يضعف ؟ ابك على خطيئتك وتضرع إلى ربك عسى أن يرحمك ، ويتجاوز عن ذنبك ، وعسى إن كنت بريئا أن يجعل هذا لك ذخرا في آخرتك ، وإن كان قلبك قد قسا فإن قولنا لن ينفعك ، ولن يأخذ فيك ، هيهات أن تنبت الآجام في المفاوز ، وهيهات أن ينبت البردي في الفلاة ، من توكل على الضعيف كيف يرجو أن يمنعه ، ومن جحد الحق كيف يرجو أن يوفى حقه ؟
قال
أيوب : إني لأعلم أن هذا هو الحق ، لن يفلج العبد على ربه ، ولا يطيق أن يخاصمه ، فأي كلام لي معه ، وإن كان إلي القوة هو الذي سمك السماء فأقامها وحده ، وهو الذي يكشطها إذا شاء فتنطوي له ، وهو الذي سطح الأرض فدحاها وحده ، ونصب فيها الجبال الراسيات ، ثم هو الذي يزلزلها من أصولها حتى تعود أسافلها أعاليها ، وإن كان في الكلام ، فأي كلام لي معه ، من خلق العرش العظيم بكلمة واحدة ، فحشاه السماوات والأرض وما فيهما من الخلق ، فوسعه وهو في سعة واسعة ، وهو الذي كلم البحار ففهمت قوله ، وأمرها فلم تعد أمره ، وهو الذي يفقه الحيتان والطير وكل دابة ، وهو الذي يكلم الموتى فيحييهم قوله ، ويكلم الحجارة فتفهم قوله ويأمرها فتطيعه .
قال
أليفز : عظيم ما تقول يا
أيوب ، إن الجلود لتقشعر من ذكر ما تقول ،
[ ص: 490 ] إنما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته ، مثل هذه الحدة ، وهذا القول أنزلك هذه المنزلة ، عظمت خطيئتك ، وكثر طلابك ، وغصبت أهل الأموال على أموالهم ، فلبست وهم عراة ، وأكلت وهم جياع ، وحبست عن الضعيف بابك ، وعن الجائع طعامك ، وعن المحتاج معروفك ، وأسررت ذلك وأخفيته في بيتك ، وأظهرت أعمالا كنا نراك تعملها ، فظننت أن الله لا يجزيك إلا على ما ظهر منك ، وظننت أن الله لا يطلع على ما غيبت في بيتك ، وكيف لا يطلع على ذلك وهو يعلم ما غيبت الأرضون وما تحت الظلمات والهواء ؟ .
قال
أيوب صلى الله عليه وسلم : إن تكلمت لم ينفعني الكلام ، وإن سكت لم تعذروني ، قد وقع علي كيدي ، وأسخطت ربي بخطيئتي ، وأشمت أعدائي ، وأمكنتهم من عنقي ، وجعلتني للبلاء غرضا ، وجعلتني للفتنة نصبا ، لم تنفسني مع ذلك ، ولكن أتبعني ببلاء على إثر بلاء ، ألم أكن للغريب دارا ، وللمسكين قرارا ، ولليتيم وليا ، وللأرملة قيما ؟ ما رأيت غريبا إلا كنت له دارا مكان داره وقرارا مكان قراره ، ولا رأيت مسكينا إلا كنت له مالا مكان ماله وأهلا مكان أهله ، وما رأيت يتيما إلا كنت له أبا مكان أبيه ، وما رأيت أيما إلا كنت لها قيما ترضى قيامه ، وأنا عبد ذليل ، إن أحسنت لم يكن لي كلام بإحسان ، لأن المن لربي وليس لي ، وإن أسأت فبيده عقوبتي ، وقد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله ، فكيف يحمله ضعفي ؟ .
قال
أليفز : أتحاج الله يا
أيوب في أمره ، أم تريد أن تناصفه وأنت خاطئ ، أو تبرئها وأنت غير بريء ؟ خلق السماوات والأرض بالحق ، وأحصى ما فيهما من الخلق ، فكيف لا يعلم ما أسررت ، وكيف لا يعلم ما عملت فيجزيك به ؟ وضع الله ملائكة صفوفا حول عرشه وعلى أرجاء سماواته ، ثم احتجب بالنور ، فأبصارهم عنه كليلة ، وقوتهم عنه ضعيفة ، وعزيزهم عنه ذليل ، وأنت تزعم أن لو خاصمك ، وأدلى إلى الحكم معك ، وهل تراه فتناصفه ، أم هل تسمعه فتحاوره ؟ قد عرفنا فيك قضاءه ، إنه من أراد أن يرتفع وضعه ، ومن اتضع له رفعه .
قال
أيوب صلى الله عليه وسلم : إن أهلكني فمن ذا الذي يعرض له في عبده ويسأله عن أمره ، لا يرد غضبه شيء إلا رحمته ، ولا ينفع عبده إلا التضرع
[ ص: 491 ] له ، قال : رب أقبل علي برحمتك ، وأعلمني ما ذنبي الذي أذنبت ؟ أو لأي شيء صرفت وجهك الكريم عني ، وجعلتني لك مثل العدو ، وقد كنت تكرمني ، ليس يغيب عنك شيء تحصي قطر الأمطار ، وورق الأشجار ، وذر التراب ، أصبح جلدي كالثوب العفن ، بأيه أمسكت سقط في يدي ، فهب لي قربانا من عندك ، وفرجا من بلائي بالقدرة التي تبعث موتى العباد ، وتنشر بها ميت البلاد ، ولا تهلكني بغير أن تعلمني ما ذنبي ، ولا تفسد عمل يديك ، وإن كنت غنيا عني ، ليس ينبغي في حكمك ظلم ، ولا في نقمتك عجل ، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، وإنما يعجل من يخاف الفوت ، ولا تذكرني خطئي وذنوبي ، اذكر كيف خلقتني من طين ، فجعلت مضغة ، ثم خلقت المضغة عظاما ، وكسوت العظام لحما وجلدا ، وجعلت العصب والعروق لذلك قواما وشدة ، وربيتني صغيرا ، ورزقتني كبيرا ، ثم حفظت عهدك وفعلت أمرك ، فإن أخطأت فبين لي ، ولا تهلكني غما ، وأعلمني ذنبي ، فإن لم أرضك فأنا أهل أن تعذبني ، وإن كنت من بين خلقك تحصي علي عملي وأستغفرك فلا تغفر لي ، إن أحسنت لم أرفع رأسي ، وإن أسأت لم تبلعني ريقي ، ولم تقلني عثرتي ، وقد ترى ضعفي تحتك ، وتضرعي لك ، فلم خلقتني ، أو لم أخرجتني من بطن أمي ، لو كنت كمن لم يكن لكان خيرا لي ، فليست الدنيا عندي بخطر لغضبك ، وليس جسدي يقوم بعذابك ، فارحمني وأذقني طعم العافية من قبل أن أصير إلى ضيق القبر وظلمة الأرض ، وغم الموت .
قال
صافر : قد تكلمت يا
أيوب ، وما يطيق أحد أن يحبس فمك ، تزعم أنك بريء ، فهل ينفعك إن كنت بريئا وعليك من يحصي عملك ، وتزعم أنك تعلم أن الله يغفر لك ذنوبك ، هل تعلم سمك السماء كم بعده ؟ أم هل تعلم عمق الهواء كم بعده ؟ أم هل تعلم أي الأرض أعرضها ؟ أم عندك لها من مقدار تقدرها به ؟ أم هل تعلم أي البحر أعمقه ؟ أم هل تعلم بأي شيء تحبسه ؟ فإن كنت تعلم هذا العلم وإن كنت لا تعلمه ، فإن الله خلقه وهو يحصيه ، لو تركت كثرة الحديث ، وطلبت إلى ربك رجوت أن يرحمك ، فبذلك تستخرج رحمته ، وإن كنت تقيم على خطيئتك وترفع إلى الله يديك عند الحاجة وأنت مصر على ذنبك إصرار الماء الجاري في صبب لا يستطاع إحباسه ، فعند طلب الحاجات
[ ص: 492 ] إلى الرحمن تسود وجوه الأشرار ، وتظلم عيونهم ، وعند ذلك يسر بنجاح حوائجهم الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم ، وتقدموا في التضرع ، ليستحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إليها ، وهم الذين كابدوا الليل ، واعتزلوا الفرش ، وانتظروا الأسحار .
قال
أيوب : أنتم قوم قد أعجبتكم أنفسكم ، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقرونني ، وأنا معروف حقي منتصف من خصمي ، قاهر لمن هو اليوم يقهرني ، يسألني عن علم غيب الله لا أعلمه ويسألني ، فلعمري ما نصح الأخ لأخيه حين نزل به البلاء كذلك ، ولكنه يبكي معه ، وإن كنت جادا فإن عقلي يقصر عن الذي تسألني عنه ، فسل طير السماء هل تخبرك ، وسل وحوش الأرض هل ترجع إليك ؟ وسل سباع البرية هل تجيبك ؟ وسل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت ؟ تعلم أن صنع هذا بحكمته ، وهيأه بلطفه . أما يعلم ابن آدم من الكلام ما سمع بأذنيه ، وما طعم بفيه ، وما شم بأنفه ، وأن العلم الذي سألت عنه لا يعلمه إلا الله الذي خلقه ، له الحكمة والجبروت ، وله العظمة واللطف ، وله الجلال والقدرة ، إن أفسد فمن ذا الذي يصلح ؟ وإن أعجم فمن ذا الذي يفصح ؟ إن نظر إلى البحار يبست من خوفه ، وإن أذن لها ابتلعت الأرض ، فإنما يحملها بقدرته هو الذي تبهت الملوك عند ملكه ، وتطيش العلماء عند علمه ، وتعيا الحكماء عند حكمته ، ويخسأ المبطلون عند سلطانه ، هو الذي يذكر المنسي ، وينسي المذكور ، ويجري الظلمات والنور ، هذا علمي ، وخلقه أعظم من أن يحصيه عقلي ، وعظمته أعظم من أن يقدرها مثلي .
قال
بلدد : إن المنافق يجزى بما أسر من نفاقه ، وتضل عنه العلانية التي خادع بها ، وتوكل على الجزاء بها الذي عملها ، ويهلك ذكره من الدنيا ويظلم نوره في الآخرة ، ويوحش سبيله ، وتوقعه في الأحبولة سريرته ، وينقطع اسمه من الأرض ، فلا ذكر فيها ولا عمران ، لا يرثه ولد مصلحون من بعده ، ولا يبقى له أصل يعرف به ، ويبهت من يراه ، وتقف الأشعار عند ذكره .
قال
أيوب : إن أكن غويا فعلي غواي ، وإن أكن بريا فأي منعة عندي ، إن صرخت فمن ذا الذي يصرخني ، وإن سكت فمن ذا الذي يعذرني ، ذهب رجائي وانقضت أحلامي ، وتنكرت لي معارفي; دعوت غلامي فلم يجبني ،
[ ص: 493 ] وتضرعت لأمتي فلم ترحمني ، وقع علي البلاء فرفضوني ، أنتم كنتم أشد علي من مصيبتي ، انظروا وابهتوا من العجائب التي في جسدي ، أما سمعتم بما أصابني ، وما شغلكم عني ما رأيتم بي ، لو كان عبد يخاصم ربه رجوت أن أتغلب عند الحكم ، ولكن لي ربا جبارا تعالى فوق سماواته ، وألقاني هاهنا ، وهنت عليه ، لا هو عذرني بعذري ، ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي يسمعني ولا أسمعه ، ويراني ولا أراه ، وهو محيط بي ، ولو تجلى لي لذابت كليتاي ، وصعق روحي ، ولو نفسني فأتكلم بملء فمي ، ونزع الهيبة مني ، علمت بأي ذنب عذبني ، نودي فقيل : يا
أيوب ، قال : لبيك ، قال : أنا هذا قد دنوت منك ، فقم فاشدد إزارك ، وقم مقام جبار ، فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزنار في فم الأسد ، والسخال في فم العنقاء ، واللحم في فم التنين ، ويكيل مكيالا من النور ، ويزن مثقالا من الريح ، ويصر صرة من الشمس ، ويرد أمس لغد ، لقد منتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوتك ، ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك ودعتك إليه تذكرت أي مرام رام بك ، أردت أن تخاصمني بغيك ؟ أم أردت أن تحاجيني بخطئك ، أم أردت أن تكاثرني بضعفك ، أين كنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها ، هل علمت بأي مقدار قدرتها ؟ أم كنت معي تمر بأطرافها ؟ أم تعلم ما بعد زواياها ؟ أم على أي شيء وضعت أكنافها ؟ أبطاعتك حمل ماء الأرض ؟ أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء ، أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها ، ولا يحملها دعائم من تحتها ، هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها ، أو تسير نجومها ، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ، أين كنت مني يوم سجرت البحار وأنبعت الأنهار ؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها ؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها ؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ، ونصبت شوامخ الجبال ، هل لك من ذراع تطيق حملها ، أم هل تدري كم مثقال فيها ، أم أين الماء الذي أنزل من السماء ؟ هل تدري أما تلده أو أبا يولده ؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق ، أم قدرتك تثير السحاب ، وتغشيه الماء ؟ هل تدري ما
[ ص: 494 ] أصوات الرعود ؟ أم من أي شيء لهب البروق ؟ هل رأيت عمق البحور ؟ أم هل تدري ما بعد الهواء ، أم هل خزنت أرواح الأموات ؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج ، أو أين خزائن البرد ، أم أين جبال البرد ؟ أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار ، وأين خزانة النهار بالليل ؟ وأين طريق النور ؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ؟ وأين خزانة الريح ، كيف تحبسه الأغلاق ؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال ؟ ومن شق الأسماع والأبصار ، ومن ذلت الملائكة لملكه ، وقهر الجبارين بجبروته ، وقسم أرزاق الدواب بحكمته ، ومن قسم للأسد أرزاقها وعرف الطير معايشها ، وعطفها على أفراخها ، من أعتق الوحش من الخدمة ، وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالأصوات ، ولا تهاب المسلطين ، أمن حكمتك تفرعت أفراخ الطير ، وأولاد الدواب لأمهاتها ؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها ، حتى أخرجت لها الطعام من بطونها ، وآثرتها بالعيش على نفوسها ؟ أم من حكمتك يبصر العقاب ، فأصبح في أماكن القتلى أين أنت مني يوم خلقت بهموت مكانه في منقطع التراب ، والوتينان يحملان الجبال والقرى والعمران ، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال رءوسهما كأنها آكام الجبال ، وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد ، وكأن جلودهما فلق الصخور ، وعظامهما كأنها عمد النحاس ، هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال ، أأنت ملأت جلودهما لحما ؟ أم أنت ملأت رءوسهما دماغا ؟ أم هل لك في خلقهما من شرك ؟ أم لك بالقوة التي عملتهما يدان ؟ أو هل يبلغ من قوتك أن تخطم على أنوفهما أو تضع يدك على رؤوسهما ، أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما ، أو تصدهما عن قوتهما ؟ أين أنت يوم خلقت التنين ورزقه في البحر ، ومسكنه في السحاب ، عيناه توقدان نارا ، ومنخراه يثوران دخانا ، أذناه مثل قوس السحاب ، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج ، جوفه يحترق ونفسه يلتهب ، وزبده كأمثال الصخور ، وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق ، وكأن نظر عينيه لهب البرق ، أسراره لا تدخله الهموم ، تمر به الجيوش وهو متكئ ، لا يفزعه شيء ليس فيه
[ ص: 495 ] مفصل ، [ زبر ] الحديد عنده مثل التين ، والنحاس عنده مثل الخيوط ، لا يفزع من النشاب ، ولا يحس وقع الصخور على جسده ، ويضحك من النيازك ، ويسير في الهواء كأنه عصفور ، ويهلك كل شيء يمر به ملك الوحوش ، وإياه آثرت بالقوة على خلقي ، هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه ، أو واضع اللجام في شدقه ، أتظنه يوفي بعهدك ، أو يسبح من خوفك ؟ هل تحصي عمره ، أم هل تدري أجله ، أو تفوت رزقه ؟ أم هل تدري ماذا خرب من الأرض ؟ أم ماذا يخرب فيما بقي من عمره ؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك ؟ تبارك الله وتعالى !
قال
أيوب صلى الله عليه وسلم : قصرت عن هذا الأمر الذي تعرض لي ، ليت الأرض انشقت بي ، فذهبت في بلائي ولم أتكلم بشيء يسخط ربي ، اجتمع علي البلاء ، إلهي حملتني لك مثل العدو ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي ، وقد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك ، وأعظم من هذا ما شئت عملت ، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية ، ولا تغيب عنك غائبة ، من هذا الذي يظن أن يسر عنك سرا ، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب ؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم ، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف ، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا ، فأما الآن فهو بصر العين ، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني ، وسكت حين سكت لترحمني ، كلمة زلت فلن أعود ، قد وضعت يدي على فمي ، وعضضت على لساني ، وألصقت بالتراب خدي ، ودست وجهي لصغاري ، وسكت كما أسكتتني خطيئتي ، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني .
قال الله تبارك وتعالى : يا
أيوب نفذ فيك علمي ، وبحلمي صرفت عنك غضبي ، إذ خطئت فقد غفرت لك ، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ، فاغتسل بهذا الماء ، فإن فيه شفاءك ، وقرب عن صحابتك قربانا ، واستغفر لهم ، فإنهم قد عصوني فيك .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة قال : ثني
محمد بن إسحاق عمن لا يتهم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه اليماني وغيره من أهل الكتب الأول ، أنه كان من حديث
أيوب أنه كان رجلا من
الروم ، وكان الله قد اصطفاه ونبأه ، وابتلاه
[ ص: 496 ] في الغنى بكثرة الولد والمال ، وبسط عليه من الدنيا ، فوسع عليه في الرزق ، وكانت له البشنية من أرض الشأم ، أعلاها وأسفلها ، وسهلها وجبلها ، وكان له فيها من أصناف المال كله ، من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون للرجل أفضل منه في العدة والكثرة ، وكان الله قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء ، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين ، يطعم المساكين ويحمل الأرامل ، ويكفل الأيتام ، ويكرم الضيف ، ويبلغ ابن السبيل ، وكان شاكرا لأنعم الله عليه ، موديا لحق الله في الغنى ، قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما أصاب من أهل الغنى من العزة والغفلة ، والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا ، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدقوه ، وعرفوا فضل ما أعطاه الله على من سواه ، منهم رجل من أهل اليمن يقال له أليفز ، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما : صوفر ، وللآخر : بلدد ، وكانوا من بلاده كهولا وكان لإبليس عدو الله منزل من السماء السابعة يقع به كل سنة موقعا يسأل فيه ، فصعد إلى السماء في ذلك اليوم الذي كان يصعد فيه ، فقال الله له : أو قيل له عن الله : هل قدرت من أيوب عبدي على شيء ؟ قال : أي رب وكيف أقدر منه على شيء ؟ أو إنما ابتليته بالرخاء والنعمة والسعة والعافية ، وأعطيته الأهل والمال والولد والغنى والعافية في جسده وأهله وماله ، فما له لا يشكرك ويعبدك ويطيعك وقد صنعت ذلك به ، لو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما كان عليه من شكرك ، ولترك عبادتك ، ولخرج من طاعتك إلى غيرها ، أو كما قال عدو الله ، فقال : قد سلطتك على أهله وماله ، وكان الله هو أعلم به ، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب بالذي يصيبه من البلاء ، وليجعله عبرة للصابرين ، وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ، ليتأسوا به ، وليرجوا من عاقبة الصبر في عرض الدنيا ثواب الآخرة وما صنع الله بأيوب ، فانحط عدو الله سريعا ، فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين من جنوده ، فقال : إني قد سلطت على أهل
أيوب وماله ، فماذا عليكم ؟ فقال قائل منهم : أكون إعصارا فيه نار ، فلا أمر بشيء من ماله إلا أهلكته ، قال : أنت وذاك ، فخرج حتى أتى إبله ، فأحرقها ورعاتها جميعا ، ثم جاء عدو الله أيوب في صورة قيمه عليها هو في مصلى فقال : يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري ، فجئتك أخبرك
[ ص: 497 ] بذلك ، فعرفه أيوب ، فقال : الحمد لله الذي هو أعطاها ، وهو أخذها الذي أخرجك منها كما يخرج الزوان من الحب النقي ، ثم انصرف عنه ، فجعل يصيب ماله مالا مالا حتى مر على آخره ، كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ، ووطن نفسه بالصبر على البلاء ، حتى إذا لم يبق له مال أتى أهله وولده ، وهم في قصر لهم معهم حظياتهم ، وخدامهم ، فتمثل ريحا عاصفا ، فاحتمل القصر من نواحيه ، فألقاه على أهله وولده ، فشدخهم تحته ، ثم أتاه في صورة قهرمانه عليهم ، قد شدخ وجهه ، فقال : يا أيوب قد أتت ريح عاصف ، فاحتملت القصر من نواحيه ، ثم ألقته على أهلك وولدك فشدختهم غيري ، فجئتك أخبرك ذلك ، فلم يجزع على شيء أصابه جزعه على أهله وولده ، وأخذ ترابا فوضعه على رأسه ، ثم قال : ليت أمي لم تلدني ، ولم أك شيئا ، وسر بها عدو الله منه ، فأصعد إلى السماء جذلا وراجع أيوب التوبة مما قال ، فحمد الله ، فسبقت توبته عدو الله إلى الله ، فلما جاء وذكر ما صنع ، قيل له قد سبقتك توبته إلى الله ومراجعته ، قال : أي رب فسلطني على جسده ، قال : قد سلطتك على جسده إلا على لسانه وقلبه ونفسه وسمعه وبصره ، فأقبل إليه عدو الله وهو ساجد ، فنفخ في جسده نفخة أشعل ما بين قرنه إلى قدمه كحريق النار ، ثم خرج في جسده ثآليل كأليات الغنم ، فحك بأظفاره حتى ذهبت ، ثم بالفخار والحجارة حتى تساقط لحمه ، فلم يبق منه إلا العروق والعصب والعظام ، عيناه تجولان في رأسه للنظر وقلبه للعقل ، ولم يخلص إلى شيء من حشو البطن ، لأنه لا بقاء للنفس إلا بها ، فهو يأكل ويشرب على التواء من حشوته ، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث .
فحدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة عن
ابن إسحاق عن
ابن دينار عن
الحسن أنه كان يقول : مكث
أيوب في ذلك البلاء سبع سنين وستة أشهر ملقى على رماد مكنسة في جانب القرية ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه : ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له ، ولا يقدر عدو الله منه على قليل ولا كثير مما يريد . فلما طال البلاء عليه وعليها ، وسئمها الناس ، وكانت تكسب عليه ما تطعمه وتسقيه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه : فحدثت أنها التمست له يوما من الأيام تطعمه ، فما وجدت شيئا حتى جزت قرنا من رأسها فباعته برغيف . فأتته به
[ ص: 498 ] فعشته إياه ، فلبث في ذلك البلاء تلك السنين ، حتى إن كان المار ليمر فيقول : لو كان لهذا عند الله خير لأراحه مما هو فيه .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة قال : فحدثني
محمد بن إسحاق قال : وكان
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه يقول : لبث في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا ، فلما غلبه
أيوب فلم يستطع منه شيئا ، اعترض لامرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والطول على مركب ليس من مراكب الناس ، له عظم وبهاء وجمال ليس لها ، فقال لها : أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى ؟ قالت نعم ، قال : هل تعرفينني ؟ قالت لا قال : فأنا إله الأرض ، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت ، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد ، فإنه عندي ، ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه ، قال : وقد سمعت أنه إنما قال : لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم عليه لعوفي مما به من البلاء ، والله أعلم ، وأراد عدو الله أن يأتيه من قبلها ، فرجعت إلى
أيوب ، فأخبرته بما قال لها وما أراها ، قال : أوقد آتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ؟ ثم أقسم إن الله عافاه ليضربنها مائة ضربة ، فلما طال عليه البلاء ، جاءه أولئك النفر الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدقوه معهم فتى حديث السن ، قد كان آمن به وصدقه ، فجلسوا إلى أيوب ونظروا إلى ما به من البلاء ، فأعظموا ذلك وفظعوا به ، وبلغ من
أيوب صلوات الله عليه مجهوده ، وذلك حين أراد الله أن يفرج عنه ما به ، فلما رأى
أيوب ما أعظموا مما أصابه ، قال : أي رب لأي شيء خلقتني ولو كنت إذ قضيت علي البلاء تركتني فلم تخلقني ليتني كنت دما ألقتني أمي ، ثم ذكر نحو حديث
nindex.php?page=showalam&ids=13361ابن عسكر عن
إسماعيل بن عبد الكريم إلى : وكابدوا الليل ، واعتزلوا الفراش ، وانتظروا الأسحار ، ثم زاد فيه : أولئك الآمنون الذي لا يخافون ، ولا يهتمون ولا يحزنون ، فأين عاقبة أمرك يا
أيوب من عواقبهم ؟
قال فتى حضرهم وسمع قولهم ، ولم يفطنوا له ولم يأبهوا لمجلسه ، وإنما قيضه الله لهم لما كان من جورهم في المنطق وشططهم ، فأراد الله أن يصغر به
[ ص: 499 ] إليهم أنفسهم وأن يسفه بصغره لهم أحلامهم ، فلما تكلم تمادى في الكلام ، فلم يزدد إلا حكما ، وكان القوم من شأنهم الاستماع والخشوع إذا وعظوا أو ذكروا ، فقال : إنكم تكلمتم قبلي أيها الكهول ، وكنتم أحق بالكلام وأولى به مني لحق أسنانكم ، ولأنكم جربتم قبلي ورأيتم وعلمتم ما لم أعلم ، وعرفتم ما لم أعرف ، ومع ذلك قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم ، ومن الموعظة أحكم من الذي وصفتم ، وقد كان
لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم ، هل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم ، وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ، ولم تعلموا أيها الكهول أن
أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض ، يومكم هذا اختاره الله لوحيه ، واصطفاه لنفسه وائتمنه على نبوته ، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره مذ أتاه ما آتاه إلى يومكم هذا ، ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا ، ولا أن
أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا ، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ، ووضعه في أنفسكم ، فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنها كرامة وخيرة لهم ، ولو كان
أيوب ليس من الله بهذه المنزلة ولا في النبوة ولا في الأثرة ولا في الفضيلة ولا في الكرامة ، إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحابة ، لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند البلاء ، ولا يعيره بالمصيبة بما لا يعلم وهو مكروب حزين ، ولكن يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ، ويحزن لحزنه ، ويدله على مراشد أمره ، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا ، فالله الله أيها الكهول في أنفسكم .
قال : ثم أقبل على
أيوب صلى الله عليه وسلم فقال : وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع لسانك ، ويكسر قلبك ، وينسيك حججك ، ألم تعلم يا
أيوب أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم ؟ وإنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء الألباء العالمون بالله وبآياته ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم ، واقشعرت جلودهم ، وانكسرت قلوبهم ، وطاشت عقولهم إعظاما لله ، وإعزازا وإجلالا فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله
[ ص: 500 ] بالأعمال الزاكية ، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين ، وإنهم لأنزاه برآء ، ومع المقصرين والمفرطين ، وإنهم لأكياس أقوياء ، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ، ولا يرضون لله بالقليل ، ولا يدلون عليه بالأعمال فهم مروعون مفزعون مغتمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون ، متى ما رأيتهم يا أيوب .
قال
أيوب : إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير ، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان ، وليست تكون الحكمة من قبل السن ، ولا الشبيبة ولا طول التجربة ، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصيام لم يسقط منزله عند الحكماء ، وهم يرون عليه من الله نور الكرامة ، ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم ، وظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم ، فهنالك بغيتم وتعززتم ، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ، ثم صدقتم أنفسكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم ، ولكني قد أصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم ، قد كنت فيما خلا مسموعا كلامي ، معروفا حقي ، منتصفا من خصمي ، قاهرا لمن هو اليوم يقهرني ، مهيبا مكاني ، والرجال مع ذلك ينصتون لي ويوقروني ، فأصبحت اليوم قد انقطع رجائي ، ورفع حذري ، وملني أهلي ، وعقني أرحامي ، وتنكرت لي معارفي ، ورغب عني صديقي ، وقطعني أصحابي ، وكفرني أهل بيتي ، وجحدت حقوقي ، ونسيت صنائعي ، أصرخ فلا يصرخونني ، وأعتذر فلا يعذرونني ، وإن قضاءه هو الذي أذلني ، وأقمأني وأخسأني ، وأن سلطانه ، هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري ، وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي ، ثم كان ينبغي للعبد يحاج عن نفسه ، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ، ولكنه ألقاني وتعالى عني ، فهو يراني ، ولا أراه ، ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إلي فرحمني ، ولا دنا مني ولا أدناني ، فأدلي بعذري ، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي .
لما قال ذلك
أيوب وأصحابه عنده ، أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب ، ثم نودي منه ، ثم قيل له : يا
أيوب ، إن الله يقول : ها أنا ذا قد دنوت منك ، ولم أزل منك قريبا ، فقم فأدل بعذرك الذي زعمت ، وتكلم ببراءتك ، وخاصم عن نفسك ، واشدد إزارك ، ثم ذكر نحو حديث
nindex.php?page=showalam&ids=13361ابن عسكر عن
إسماعيل إلى آخره ، وزاد فيه : ورحمتي سبقت غضبي ، فاركض برجلك هذا
[ ص: 501 ] مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك ، وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم ، ومالك ومثله معه وزعموا : ومثله معه لتكون لمن خلفك آية ، ولتكون عبرة لأهل البلاء ، وعزاء للصابرين ، فركض برجله ، فانفجرت له عين ، فدخل فيها فاغتسل ، فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء ، ثم خرج فجلس ، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه ، فلم تجده ، فقامت كالوالهة متلددة ، ثم قالت : يا عبد الله ، هل لك علم بالرجل المبتلي الذي كان هاهنا ؟ قال : لا ثم تبسم ، فعرفته بمضحكه ، فاعتنقته .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة عن
محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه قال : فحدثت
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس حديثه ، واعتناقها إياه ، فقال
عبد الله : فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مر بها كل مال لهما وولد .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة عن
ابن إسحاق قال : وقد سمعت بعض من يذكر الحديث عنه أنه دعاها حين سألت عنه ، فقال لها : وهل تعرفينه إذا رأيته ؟ قالت : نعم ، ومالي لا أعرفه ؟ فتبسم ، ثم قال : ها أنا هو ، وقد فرج الله عني ما كنت فيه ، فعند ذلك اعتنقته ، قال
وهب : فأوحى الله في قسمه ليضربها في الذي كلمته أن (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ) أي قد برت يمينك ، يقول الله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) يقول الله (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=43ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ) .
حدثنا
يحيى بن طلحة اليربوعي قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14919فضيل بن عياض عن
هشام عن
الحسن قال : لقد مكث
أيوب مطروحا على كناسة سبع سنين وأشهرا ما يسأل الله أن يكشف ما به ، قال : وما على وجه الأرض خلق أكرم على الله من
أيوب ، فيزعمون أن بعض الناس قال : لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به هذا ، فعند ذلك دعا .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية عن
يونس عن
الحسن قال : بقي
أيوب على كناسة
لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف عليه الدواب .
حدثني
محمد بن إسحاق قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين قال : ثنا
ابن عيينة [ ص: 502 ] عن
عمرو عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه قال : لم يكن
بأيوب أكلة ، إنما كان يخرج به مثل ثدي النساء ثم ينقفه .
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثنا
مخلد بن حسين عن
هشام عن
الحسن وحجاج عن
مبارك عن
الحسن : زاد أحدهما على الآخر قال : إن
أيوب آتاه الله مالا وأوسع عليه ، وله من النساء والبقر والغنم والإبل ، وإن عدو الله إبليس قيل له : هل تقدر أن تفتن
أيوب ؟ قال : رب إن
أيوب أصبح في دنيا من مال وولد ، ولا يستطيع أن لا يشكرك ، ولكن سلطني على ماله وولده ، فسترى كيف يطيعني ويعصيك ! قال : فسلطه على ماله وولده ، قال : فكان يأتي بالماشية من ماله من الغنم فيحرقها بالنيران ، ثم يأتي
أيوب وهو يصلي متشبها براعي الغنم ، فيقول : يا
أيوب تصلي لربك ، ما ترك الله لك من ماشيتك شيئا من الغنم إلا أحرقها بالنيران ، وكنت ناحية فجئت لأخبرك ، قال : فيقول
أيوب : اللهم أنت أعطيت ، وأنت أخذت ، مهما تبقي نفسي أحمدك على حسن بلائك ، فلا يقدر منه على شيء مما يريد ، ثم يأتي ماشيته من البقر فيحرقها بالنيران ، ثم يأتي
أيوب فيقول له ذلك ، ويرد عليه
أيوب مثل ذلك ، قال : وكذلك فعل بالإبل حتى ما ترك له من ماشية حتى هدم البيت على ولده ، فقال : يا
أيوب أرسل الله على ولدك من هدم عليهم البيوت ، حتى هلكوا ، فيقول
أيوب مثل ذلك ، قال : رب هذا حين أحسنت إلي الإحسان كله ، قد كنت قبل اليوم يشغلني حب المال بالنهار ، ويشغلني حب الولد بالليل شفقة عليهم ، فالآن أفرغ سمعي وبصري وليلي ونهاري بالذكر والحمد ، والتقديس والتهليل ، فينصرف عدو الله من عنده لم يصب منه شيئا مما يريد .
قال : ثم إن الله تبارك وتعالى قال : كيف رأيت
أيوب ؟ قال إبليس :
أيوب قد علم أنك سترد عليه ماله وولده ولكن سلطني على جسده ، فإن أصابه الضر فيه أطاعني وعصاك ، قال : فسلط على جسده ، فأتاه فنفخ فيه نفخة قرح من لدن قرنه إلى قدمه ، قال : فأصابه البلاء بعد البلاء ، حتى حمل فوضع على مزبلة كناسة لبني إسرائيل ، فلم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ، ولا أحد يقربه غير زوجته ، صبرت معه بصدق ، وكانت تأتيه بطعام ، وتحمد الله معه إذا حمد ،
وأيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله ، والتحميد والثناء على الله والصبر على
[ ص: 503 ] ما ابتلاه الله ، قال
الحسن : فصرخ إبليس عدو الله صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر
أيوب ، فاجتمعوا إليه وقالوا له : جمعتنا ، ما خبرك ؟ ما أعياك ؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سألت ربي أن يسلطني على ماله وولده فلم أدع له مالا ولا ولدا ، فلم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء على الله وتحميدا له ، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل ، لا يقربه إلا امرأته ، فقد افتضحت بربي ، فاستعنت بكم ، فأعينوني عليه ، قال : فقالوا له : أين مكرك ؟ أين علمك الذي أهلكت به من مضى ، قال : بطل ذلك كله في
أيوب ، فأشيروا علي ، قالوا : نشير عليك ، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة ، من أين أتيته ؟ قال : من قبل امرأته ، قالوا : فشأنك
بأيوب من قبل امرأته ، فإنه لا يستطيع أن يعصيها ، وليس أحد يقربه غيرها ، قال : أصبتم ، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق ، فتمثل لها في صورة رجل ، فقال : أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت : هو ذاك يحك قروحه ، ويتردد الدواب في جسده ، فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع ، فوقع في صدرها ، فوسوس إليها ، فذكرها ما كانت فيه من النعم والمال والدواب ، وذكرها جمال
أيوب وشبابه ، وما هو فيه من الضر ، وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا ، قال
الحسن : فصرخت ، فلما صرخت علم أن قد صرخت وجزعت ، أتاها بسخلة ، فقال : ليذبح هذا إلي
أيوب ويبرأ ، قال : فجاءت تصرخ يا
أيوب ، يا
أيوب ، حتى متى يعذبك ربك ، ألا يرحمك ؟ أين الماشية ؟ أين المال ، أين الولد ؟ أين الصديق ، أين لونك الحسن ؟ قد تغير ، وصار مثل الرماد ؟ أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردد فيه الدواب ؟ اذبح هذه السخلة واسترح ، قال
أيوب : أتاك عدو الله ، فنفخ فيك ، فوجد فيك رفقا ، وأجبته ! ويلك أرأيت ما تبكين عليه مما تذكرين ما كنا فيه من المال والولد والصحة والشباب ؟ من أعطانيه ؟ قالت : الله ، قال : فكم متعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة ، قال : فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء الذي ابتلانا به ؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر ، قال : ويلك ! والله ما عدلت ، ولا أنصفت ربك ، ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ؟ والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة
[ ص: 504 ] جلدة ، هيه أمرتيني أن أذبح لغير الله ، طعامك وشرابك الذي تأتيني به علي حرام ، وأن أذوق ما تأتيني به بعد ، إذ قلت لي هذا فاغربي عني فلا أراك ، فطردها ، فذهبت ، فقال الشيطان : هذا قد وطن نفسه ثمانين سنة على هذا البلاء الذي هو فيه ، فباء بالغلبة ورفضه ، ونظر
أيوب إلى امرأته وقد طردها ، وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق . قال
الحسن : ومر به رجلان وهو على تلك الحال ، ولا والله ما على ظهر الأرض يومئذ أكرم على الله من
أيوب ، فقال أحد الرجلين لصاحبه : لو كان لله في هذا حاجة ، ما بلغ به هذا ، فلم يسمع
أيوب شيئا كان أشد عليه من هذه الكلمة .
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
جرير بن حازم عن
عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان
لأيوب أخوان ، فأتياه ، فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم في
أيوب خيرا ما ابتلاه بما أرى ، قال : فما جزع
أيوب من شيء أصابه جزعه من كلمة الرجل ، فقال
أيوب : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصدق وهما يسمعان ، ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أتخذ قميصين قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق وهما يسمعان ، قال : ثم خر ساجدا .
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : فحدثني مخلد بن
الحسين عن هشام ، عن
الحسن قال : فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83رب إني مسني الضر ) ثم رد ذلك إلى ربه فقال (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83وأنت أرحم الراحمين ) .
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
جرير عن
عبد الله بن عبيد بن عمير قال : فقيل له : ارفع رأسك فقد استجيب لك .
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
مبارك عن
الحسن ومخلد ، عن
هشام عن
الحسن دخل حديث أحدهما في الآخر ، قالا فقيل له : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=42اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) فركض برجله فنبعت عين ، فاغتسل منها ، فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط ، فأذهب الله
[ ص: 505 ] كل ألم وكل سقم ، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان ، ثم ضرب برجله ، فنبعت عين أخرى فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج ، فقام صحيحا ، وكسي حلة ، قال : فجعل يتلفت ولا يرى شيئا ما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له ، حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل به ، تطاير على صدره جرادا من ذهب ، قال : فجعل يضمه بيده ، فأوحى الله إليه : يا
أيوب ألم أغنك ؟ قال : بلى ، ولكنها بركتك ، فمن يشبع منها ، قال : فخرج حتى جلس على مكان مشرف ، ثم إن امرأته قالت : أرأيت إن كان طردني إلى من أكله ؟ أدعه يموت جوعا أو يضيع فتأكله السباع ؟ لأرجعن إليه فرجعت ، فلا كناسة ترى ، ولا من تلك الحال التي كانت ، وإذا الأمور قد تغيرت ، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي ، وذلك بعين
أيوب ، قالت : وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأل عنه ، فأرسل إليها
أيوب فدعاها ، فقال : ما تريدين يا أمة الله ؟ فبكت وقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة ، لا أدري أضاع أم ما فعل ؟ قال لها أيوب : ما كان منك ؟ فبكت وقالت : بعلي ، فهل رأيته ؟ وهي تبكي إنه قد كان هاهنا ؟ قال : وهل تعرفينه إذا رأيتيه ؟ قالت : وهل يخفى على أحد رآه ؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ، ثم قالت : أما إنه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا ، قال : فإني أنا
أيوب الذي أمرتيني أن أذبح للشيطان ، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ، فدعوت الله فرد علي ما ترين ، قال
الحسن : ثم إن الله رحمها بصبرها معه على البلاء أن أمره تخفيفا عنها أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها ضربة واحدة تخفيفا عنها بصبرها معه .
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر ) . . . إلى آخر الآيتين ، فإنه لما مسه الشيطان بنصب وعذاب ، أنساه الله الدعاء أن يدعوه فيكشف ما به من ضر ، غير أنه كان يذكر الله كثيرا ، ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان ، فلما انتهى الأجل ، وقضى الله أنه كاشف ما به من ضر أذن له في الدعاء ، ويسره له ، وكان قبل ذلك يقول تبارك وتعالى : لا ينبغي لعبدي
أيوب أن يدعوني ، ثم لا أستجيب له ، فلما دعا
[ ص: 506 ] استجاب له ، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين ، رد إليه أهله ومثلهم معهم ، وأثنى عليه فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) .
واختلف أهل التأويل في الأهل الذي ذكر الله في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) أهم أهله الذين أوتيهم في الدنيا ، أم ذلك وعد وعده الله أيوب أن يفعل به في الآخرة ؟ فقال بعضهم : إنما آتى الله
أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا ، فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا ، وإنما وعد الله
أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة .
حدثني
أبو السائب سلم بن جنادة قال : ثنا
ابن إدريس عن
ليث قال : أرسل
مجاهد رجلا يقال له
قاسم إلى
عكرمة يسأله عن قول الله
لأيوب (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) فقال : قيل له : إن أهلك لك في الآخرة ، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا ، وإن شئت كانوا لك في الآخرة ، وآتيناك مثلهم في الدنيا ، فقال : يكونون لي في الآخرة ، وأوتى مثلهم في الدنيا ، قال : فرجع إلى
مجاهد فقال : أصاب .
وقال آخرون : بل ردهم إليه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15738حكام بن سلم عن
أبي سنان عن ثابت ، عن
الضحاك عن
ابن مسعود (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) قال : أهله بأعيانهم .
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : لما دعا
أيوب استجاب الله له ، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين ، رد إليه أهله ومثلهم معهم .
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=43ووهبنا له أهله ومثلهم معهم ) قال : أحياهم بأعيانهم ، ورد إليه مثلهم .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
جرير ، عن
ليث عن
مجاهد في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وهبنا له أهله ومثلهم معهم ) قال : قيل له : إن شئت أحييناهم لك ، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وتعطى مثلهم في الدنيا ، فاختار أن يكونوا في الآخرة
[ ص: 507 ] ومثلهم في الدنيا .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) قال
الحسن وقتادة : أحيا الله أهله بأعيانهم ، وزاده إليهم مثلهم .
وقال آخرون : بل آتاه المثل من نسل ماله الذي رده عليه وأهله ، فأما الأهل والمال فإنه ردهما عليه .
ذكر من قال ذلك : حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن رجل ، عن
الحسن (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84ومثلهم معهم ) قال : من نسلهم .
وقوله ( رحمة ) نصبت بمعنى : فعلنا بهم ذلك رحمة منا له .
وقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وذكرى للعابدين ) يقول : وتذكرة للعابدين ربهم فعلنا ذلك به ليعتبروا به ، ويعلموا أن الله قد يبتلي أولياءه ومن أحب من عباده في الدنيا بضروب من البلاء في نفسه وأهله وماله ، من غير هوان به عليه ، ولكن اختبارا منه له ليبلغ بصبره عليه واحتسابه إياه وحسن يقينه منزلته التي أعدها له تبارك وتعالى من الكرامة عنده .
وقد : حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
أبي معشر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) وقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=43رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ) قال : أيما مؤمن أصابه بلاء فذكر ما أصاب
أيوب فليقل : قد أصاب من هو خير منا نبيا من الأنبياء .
[ ص: 483 ] الْقَوْلُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28992_31904_31906_28965تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 83 )
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ( 84 ) )
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاذْكُرْ
أَيُّوبَ يَا
مُحَمَّدُ ، إِذْ نَادَى رَبَّهُ وَقَدْ مَسَّهُ الضُّرُّ وَالْبَلَاءُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83رَبِّ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : فَاسْتَجَبْنَا
لِأَيُّوبَ دُعَاءَهُ إِذْ نَادَانَا ، فَكَشَفْنَا مَا كَانَ بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَبَلَاءٍ وَجَهْدٍ ، وَكَانَ الضُّرُّ الَّذِي أَصَابَهُ وَالْبَلَاءُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ امْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ لَهُ وَاخْتِبَارًا .
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ كَمَا حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ الْبُخَارِيُّ قَالَ : ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ : ثَنِي
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ : كَانَ بَدْءُ
nindex.php?page=treesubj&link=31906_31904_28965_31788أَمْرِ أَيُّوبَ الصِّدِّيقِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، أَنَّهُ كَانَ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ ، قَالَ
وَهْبٌ : إِنَّ
لِجِبْرِيلَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مَقَامًا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقُرْبَةِ مِنَ اللَّهِ وَالْفَضِيلَةِ عِنْدَهُ ، وَإِنَّ
جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي يَتَلَقَّى الْكَلَامَ ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ عَبْدًا بِخَيْرٍ تَلَقَّاهُ
جِبْرَائِيلُ مِنْهُ ، ثُمَّ تَلَقَّاهُ
مِيكَائِيلُ ، وَحَوْلَهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، صَارَتِ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ مَنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ ، فَإِذَا صَلَّتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ ، هَبَطَتْ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ إِلَى مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ ، وَكَانَ إِبْلِيسُ لَا يُحْجَبُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ ، وَكَانَ يَقِفُ فِيهِنَّ حَيْثُ شَاءَ مَا أَرَادُوا . وَمِنْ
[ ص: 484 ] هُنَالِكَ وَصَلَ إِلَى
آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ يَصْعَدُ فِي السَّمَاوَاتِ ، حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَحُجِبَ مِنْ أَرْبَعٍ ، وَكَانَ يَصْعَدُ فِي ثَلَاثٍ ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجِبَ مِنَ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ ، فَهُوَ مَحْجُوبٌ هُوَ وَجَمِيعُ جُنُودِهِ مِنْ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=18إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) وَلِذَلِكَ أَنْكَرَتِ الْجِنُّ مَا كَانَتْ تَعْرِفُ حِينَ قَالَتْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=8وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا ) . . . إِلَى قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=9شِهَابًا رَصَدًا ) .
قَالَ
وَهْبٌ : فَلَمْ يَرُعْ إِبْلِيسَ إِلَّا تَجَاوُبُ مَلَائِكَتِهَا بِالصَّلَاةِ عَلَى
أَيُّوبَ ، وَذَلِكَ حِينَ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، فَلَمَّا سَمِعَ إِبْلِيسُ صَلَاةَ الْمَلَائِكَةِ ، أَدْرَكَهُ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ ، وَصَعِدَ سَرِيعًا حَتَّى وَقَفَ مِنَ اللَّهِ مَكَانًا كَانَ يَقِفُهُ ، فَقَالَ : يَا إِلَهِي ، نَظَرْتُ فِي أَمْرِ عَبْدِكَ
أَيُّوبَ فَوَجَدْتُهُ عَبْدًا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ فَشَكَرَكَ ، وَعَافَيْتَهُ فَحَمِدَكَ ، ثُمَّ لَمْ تُجَرِّبْهُ بِشِدَّةٍ وَلَمْ تُجَرِّبْهُ بِبَلَاءٍ ، وَأَنَا لَكَ زَعِيمٌ لَئِنْ ضَرَبْتَهُ بِالْبَلَاءِ لَيَكْفُرَنَّ بِكَ وَلَيَنْسَيَنَّكَ وَلَيَعْبُدَنَّ غَيْرَكَ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ : انْطَلِقْ ، فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ ، فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِ يَشْكُرُنِي ، لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى جَسَدِهِ ، وَلَا عَلَى عَقْلِهِ ، فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ حَتَّى وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ جَمَعَ عَفَارِيتَ الشَّيَاطِينِ وَعُظَمَاءَهُمْ ، وَكَانَ
لِأَيُّوبَ الْبَشْنِيَةُ مِنَ
الشَّامِ كُلِّهَا بِمَا فِيهَا مِنْ شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا ، وَكَانَ لَهُ بِهَا أَلْفُ شَاةٍ بِرُعَاتِهَا وَخَمْسُمِائَةِ فَدَّانٍ يَتْبَعُهَا خَمْسُمِائَةِ عَبْدٍ ، لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ وَوَلَدٌ وَمَالٌ ، وَحِمْلُ آلَةِ كُلِّ فَدَّانٍ أَتَانٌ ، لِكُلِّ أَتَانٍ وَلَدٌ مِنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ وَفَوْقَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا جَمَعَ إِبْلِيسُ الشَّيَاطِينَ ، قَالَ لَهُمْ : مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ ؟ فَإِنِّي قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى مَالِ
أَيُّوبَ ، فَهِيَ الْمُصِيبَةُ الْفَادِحَةُ ، وَالْفِتْنَةُ الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ ، قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ : أُعْطِيتُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إِعْصَارًا مِنْ نَارٍ فَأَحْرَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ آتِي عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ : فَأْتِ الْإِبِلَ وَرُعَاتَهَا ، فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ الْإِبِلَ ، وَذَلِكَ حِينَ وَضَعَتْ رُءُوسَهَا وَثَبَتَتْ فِي مَرَاعِيهَا ، فَلَمْ تَشْعُرِ النَّاسُ حَتَّى ثَارَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ إِعْصَارٌ مِنْ نَارٍ تَنْفُخُ مِنْهَا أَرْوَاحُ السَّمُومِ ، لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا احْتَرَقَ فَلَمْ يَزَلْ يَحْرِقُهَا وَرُعَاتَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا تَمَثَّلَ إِبْلِيسُ عَلَى قَعُودٍ مِنْهَا
[ ص: 485 ] بِرَاعِيهَا ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَؤُمُّ
أَيُّوبَ حَتَّى وَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّي ، فَقَالَ : يَا
أَيُّوبُ ، قَالَ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا الَّذِي صَنَعَ رَبُّكَ الَّذِي اخْتَرْتَ وَعَبَدْتَ وَوَحَّدْتَ بِإِبِلِكَ وَرُعَاتِهَا ؟ قَالَ
أَيُّوبُ : إِنَّهَا مَالُهُ أَعَارَنِيهِ ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ إِذَا شَاءَ نَزَعَهُ ، وَقَدِيمًا مَا وَطَّنْتُ نَفْسِي وَمَالِي عَلَى الْفَنَاءِ ، قَالَ إِبْلِيسُ : وَإِنَّ رَبَّكَ أَرْسَلَ عَلَيْهَا نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَرَقَتْ وَرُعَاتُهَا ، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ شَيْءٍ مِنْهَا وَمِنْ رُعَاتِهَا ، فَتَرَكَتِ النَّاسَ مَبْهُوتِينَ ، وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَيْهَا يَتَعَجَّبُونَ ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَا كَانَ
أَيُّوبُ يَعْبُدُ شَيْئًا وَمَا كَانَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَوْ كَانَ إِلَهُ أَيُّوبَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَمَنَعَ وَلِيَّهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ لِيُشَمِّتَ بِهِ عَدُوَّهُ ، وَلِيُفْجِعَ بِهِ صَدِيقَهُ ، قَالَ
أَيُّوبُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ حِينَ أَعْطَانِي ، وَحِينَ نَزَعَ مِنِّي ، عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي ، وَعُرْيَانًا أَعُودُ فِي التُّرَابِ ، وَعُرْيَانًا أُحْشَرُ إِلَى اللَّهِ ، لَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْرَحَ حِينَ أَعَارَكَ اللَّهُ وَتَجْزَعَ حِينَ قَبَضَ عَارِيَّتَهُ ، اللَّهُ أَوْلَى بِكَ ، وَبِمَا أَعْطَاكَ ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ خَيْرًا لَنَقَلَ رُوحَكَ مَعَ مَلَكِ الْأَرْوَاحِ ، فَآجَرَنِي فِيكَ وَصِرْتَ شَهِيدًا ، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ مِنْكَ شَرًّا فَأَخَّرَكَ مِنْ أَجْلِهِ ، فَعَرَّاكَ اللَّهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ ، وَخَلَّصَكَ مِنَ الْبَلَاءِ كَمَا يَخْلُصُ الزُّوَانُ مِنَ الْقَمْحِ الْخَلَاصَ .
ثُمَّ رَجَعَ إِبْلِيسُ إِلَى أَصْحَابِهِ خَاسِئًا ذَلِيلًا فَقَالَ لَهُمْ : مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ ، فَإِنِّي لَمْ أُكَلِّمْ قَلْبَهُ ؟ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتَ صِحْتُ صَوْتًا لَا يَسْمَعُهُ ذُو رُوحٍ إِلَّا خَرَجَتْ مُهْجَةُ نَفْسِهِ ، قَالَ لَهُ إِبْلِيسُ : فَأْتِ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا ، فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا ، حَتَّى إِذَا وَسَطَهَا صَاحَ صَوْتًا جَثَمَتْ أَمْوَاتًا مِنْ عِنْدِ آخِرِهَا وَرُعَائِهَا ، ثُمَّ خَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الرَّعَاءِ ، حَتَّى إِذَا جَاءَ
أَيُّوبَ وَجَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ
أَيُّوبُ الرَّدَّ الْأَوَّلَ ، ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ ، فَإِنِّي لَمْ أُكَلِّمْ قَلْبَ
أَيُّوبَ ؟ فَقَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ : عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ رِيحًا عَاصِفًا تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ تَأْتِي عَلَيْهِ ، حَتَّى لَا أُبْقِيَ شَيْئًا ، قَالَ لَهُ
[ ص: 486 ] إِبْلِيسُ : فَأْتِ الْفَدَادِينَ وَالْحَرْثَ ، فَانْطَلَقَ يَؤُمُّهُمْ ، وَذَلِكَ حِينَ قَرَّبُوا الْفَدَادِينَ وَأَنْشَئُوا فِي الْحَرْثِ ، وَالْأُتْنُ وَأَوْلَادُهَا رُتُوعٌ ، فَلَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، ثُمَّ خَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الْحَرْثِ ، حَتَّى جَاءَ
أَيُّوبَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ
أَيُّوبُ مِثْلَ رَدِّهِ الْأَوَّلِ .
فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ أَنَّهُ قَدْ أَفْنَى مَالَهُ ، وَلَمْ يَنْجَحْ مِنْهُ ، صَعِدَ سَرِيعًا ، حَتَّى وَقَفَ مِنَ اللَّهِ الْمَوْقِفَ الَّذِي كَانَ يَقِفُهُ ، فَقَالَ : يَا إِلَهِي إِنَّ
أَيُّوبَ يَرَى أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ ، فَأَنْتَ مُعْطِيهِ الْمَالَ ، فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى وَلَدِهِ ؟ فَإِنَّهَا الْفِتْنَةُ الْمُضِلَّةُ ، وَالْمُصِيبَةُ الَّتِي لَا تَقُومُ لَهَا قُلُوبُ الرِّجَالِ ، وَلَا يَقْوَى عَلَيْهَا صَبْرُهُمْ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : انْطَلِقْ ، فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى وَلَدِهِ ، وَلَا سُلْطَانَ لَكَ عَلَى قَلْبِهِ وَلَا جَسَدِهِ ، وَلَا عَلَى عَقْلِهِ ، فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ جَوَادًا ، حَتَّى جَاءَ بَنِي أَيُّوبَ وَهُمْ فِي قَصْرِهِمْ ، فَلَمْ يَزَلْ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حَتَّى تَدَاعَى مِنْ قَوَاعِدِهِ ، ثُمَّ جَعَلَ يُنَاطِحُ الْجُدُرَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ ، وَيَرْمِيهِمْ بِالْخَشَبِ وَالْجَنْدَلِ ، حَتَّى إِذَا مَثَّلَ بِهِمْ كُلَّ مَثُلَةٍ ، رَفَعَ بِهِمُ الْقَصْرَ ، حَتَّى إِذَا أَقَلَّهُ بِهِمْ فَصَارُوا فِيهِ مُنَكَّسَيْنِ ، انْطَلَقَ إِلَى أَيُّوبَ مُتَمَثِّلًا بِالْمُعَلِّمِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ وَهُوَ جَرِيحٌ مَشْدُوخُ الْوَجْهِ يَسِيلُ دَمُهُ وَدِمَاغُهُ ، مُتَغَيِّرًا لَا يَكَادُ يُعْرَفُ مِنْ شِدَّةِ التَّغَيُّرِ وَالْمُثْلَةِ الَّتِي جَاءَ مُتَمَثِّلًا فِيهَا ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ
أَيُّوبُ هَالَهُ ، وَحَزِنَ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، وَقَالَ لَهُ : يَا
أَيُّوبُ ، لَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَفْلَتُّ مِنْ حَيْثُ أَفْلَتُّ ، وَالَّذِي رَمَانَا بِهِ مِنْ فَوْقِنَا وَمِنْ تَحْتِنَا ، وَلَوْ رَأَيْتَ بَنِيكَ كَيْفَ عُذِّبُوا ، وَكَيْفَ مُثِّلَ بِهِمْ ، وَكَيْفَ قُلِبُوا فَكَانُوا مُنَكَّسِينَ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، تَسِيلُ دِمَاؤُهُمْ وَدِمَاغُهُمْ مِنْ أُنُوفِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ ، وَتَقْطُرُ مِنْ أَشْفَارِهِمْ ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ شُقَّتْ بُطُونُهُمْ ، فَتَنَاثَرَتْ أَمْعَاؤُهُمْ ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ قُذِفُوا بِالْخَشَبِ وَالْجَنْدَلُ يَشْدُخُ دِمَاغُهُمْ ، وَكَيْفَ دَقَّ الْخَشَبُ عِظَامَهُمْ ، وَخَرَقَ جُلُودَهُمْ ، وَقَطَعَ عَصَبَهُمْ ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْعَصَبَ عُرْيَانًا ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْعِظَامَ مُتَهَشِّمَةً فِي الْأَجْوَافِ ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْوُجُوهَ مَشْدُوخَةً ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْجُدُرَ تَنَاطَحُ عَلَيْهِمْ ، وَلَوْ رَأَيْتَ مَا رَأَيْتُ ، قُطِّعَ قَلْبُكَ ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ هَذَا وَنَحْوَهُ ، وَلَمْ يَزَلْ يُرَقِّقُهُ حَتَّى رَقَّ
أَيُّوبُ فَبَكَى ، وَقَبَضَ قَبْضَةً
[ ص: 487 ] مِنْ تُرَابٍ ، فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ ، فَاغْتَنَمَ إِبْلِيسُ ( الْفُرْصَةَ مِنْهُ ) عِنْدَ ذَلِكَ ، فَصَعِدَ سَرِيعًا بِالَّذِي كَانَ مِنْ جَزَعِ أَيُّوبَ مَسْرُورًا بِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ
أَيُّوبُ أَنْ فَاءَ وَأَبْصَرَ ، فَاسْتَغْفَرَ ، وَصَعَدَ قُرَنَاؤُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِتَوْبَةٍ مِنْهُ ، فَبَدَرُوا إِبْلِيسَ إِلَى اللَّهِ ، فَوَجَدُوهُ قَدْ عَلِمَ بِالَّذِي رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ تَوْبَةِ
أَيُّوبَ ، فَوَقَفَ إِبْلِيسُ خَازِيًا ذَلِيلًا فَقَالَ : يَا إِلَهِي ، إِنَّمَا هَوَّنَ عَلَى أَيُّوبَ خَطَرَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ ، فَأَنْتَ تُعِيدُ لَهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ ، فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى جَسَدِهِ ؟ فَأَنَا لَكَ زَعِيمٌ لَئِنِ ابْتَلَيْتَهُ فِي جَسَدِهِ لَيَنْسَيَنَّكَ ، وَلَيَكْفُرَنَّ بِكَ ، وَلَيَجْحَدَنَّكَ نِعْمَتَكَ ، قَالَ اللَّهُ : انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى لِسَانِهِ وَلَا عَلَى قَلْبِهِ ، وَلَا عَلَى عَقْلِهِ .
فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ جَوَادًا ، فَوَجَدَ
أَيُّوبَ سَاجِدًا ، فَعَجِلَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ ، فَأَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ وَجْهِهِ ، فَنَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا جَسَدُهُ فَتَرَهَّلَ ، وَنَبَتَتْ ( بِهِ ) : ثَآلِيلُ مِثْلُ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ ، وَوَقَعَتْ فِيهِ حَكَّةٌ لَا يَمْلِكُهَا ، فَحَكَّ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى سَقَطَتْ كُلُّهَا ، ثُمَّ حَكَّ بِالْعِظَامِ ، وَحَكَّ بِالْحِجَارَةِ الْخَشِنَةِ ، وَبِقِطَعِ الْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُكُّهُ حَتَّى نَفِدَ لَحْمُهُ وَتَقَطَّعَ ، وَلَمَّا نَغِلَ جَلْدُ
أَيُّوبَ وَتَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ ، أَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ ، فَجَعَلُوهُ عَلَى تَلٍّ وَجَعَلُوا لَهُ عَرِيشًا ، وَرَفَضَهُ خَلْقُ اللَّهِ غَيْرَ امْرَأَتِهِ ، فَكَانَتْ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ وَيَلْزَمُهُ ، وَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اتَّبَعُوهُ عَلَى دِينِهِ ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ رَفَضُوهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُ وَاتَّهَمُوهُ ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ بِلْدَدُ ، وَأَلْيَفَزُ ، وَصَافِرُ ، قَالَ : فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الثَّلَاثَةُ ، وَهُوَ فِي بَلَائِهِ ، فَبَكَتُوهُ : فَلَمَّا سَمِعَ مِنْهُمْ أَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ ، فَقَالَ أَيُّوبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَبِّ لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي ؟ لَوْ كُنْتَ إِذْ كَرِهْتَنِي فِي الْخَيْرِ تَرَكْتَنِي فَلَمْ تَخْلُقْنِي ، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ حَيْضَةً أَلْقَتْنِي أُمِّي ، وَيَا لَيْتَنِي مِتُّ فِي بَطْنِهَا ، فَلَمْ أَعْرِفْ شَيْئًا وَلَمْ تَعْرِفْنِي ، مَا الذَّنْبُ الَّذِي أَذْنَبْتُ لَمْ يُذْنِبْهُ أَحَدٌ غَيْرِي ، وَمَا الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلْتُ فَصَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي ، لَوْ كُنْتَ أَمَتَّنِي فَأَلْحَقْتَنِي بِآبَائِي ، فَالْمَوْتُ كَانَ أَجْمَلُ بِي ، فَأُسْوَةٌ لِي بِالسَّلَاطِينِ الَّذِي صُفَّتْ مِنْ دُونِهِمُ الْجُيُوشُ ،
[ ص: 488 ] يَضْرِبُونَ عَنْهُمْ بِالسُّيُوفِ بُخْلًا بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ ، وَحِرْصًا عَلَى بَقَائِهِمْ ، أَصْبَحُوا فِي الْقُبُورِ جَاثِمِينَ ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيُخَلَّدُونَ ، وَأُسْوَةٌ لِي بِالْمُلُوكِ الَّذِينَ كَنَزُوا الْكُنُوزَ ، وَطَمَرُوا الْمَطَامِيرَ ، وَجَمَعُوا الْجُمُوعَ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيَخْلُدُونَ ، وَأُسْوَةٌ لِي بِالْجَبَّارِينَ الَّذِينَ بَنَوُا الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ ، وَعَاشُوا فِيهَا الْمَئِينَ مِنَ السِّنِينَ ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ خَرَابًا ، مَأْوًى لِلْوُحُوشِ ، وَمَثْنًى لِلشَّيَاطِينِ .
قَالَ
أَلْيَفَزُ التَّيْمَانِيُّ : قَدْ أَعْيَانَا أَمْرُكَ يَا
أَيُّوبُ ، إِنْ كَلَّمْنَاكَ فَمَا نَرْجُ لِلْحَدِيثِ مِنْكَ مَوْضِعًا ، وَإِنْ نَسْكُتْ عَنْكَ مَعَ الَّذِي نَرَى فِيكَ مِنَ الْبَلَاءِ ، فَذَلِكَ عَلَيْنَا ، قَدْ كُنَّا نَرَى مِنْ أَعْمَالِكَ أَعْمَالًا كُنَّا نَرْجُو لَكَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ غَيْرَ مَا رَأَيْنَا ، فَإِنَّمَا يُحْصَدُ امْرُؤٌ مَا زَرَعَ ، وَيُجْزَى بِمَا عَمِلَ ، أَشْهَدُ عَلَى اللَّهِ الَّذِي لَا يُقَدَّرُ قَدْرُ عَظَمَتِهِ ، وَلَا يُحْصَى عَدَدُ نِعَمِهِ ، الَّذِي يُنَزِّلُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فَيُحْيِي بِهِ الْمَيِّتَ ، وَيَرْفَعُ بِهِ الْخَافِضَ ، وَيُقَوِّي بِهِ الضَّعِيفَ ، الَّذِي تَضِلُّ حِكْمَةُ الْحُكَمَاءِ عِنْدَ حِكْمَتِهِ ، وَعِلْمُ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ عِلْمِهِ ، حَتَّى تَرَاهُمْ مِنَ الْعِيِّ فِي ظُلْمَةٍ يَمُوجُونَ ، أَنَّ مَنْ رَجَا مَعُونَةَ اللَّهِ هُوَ الْقَوِيُّ ، وَأَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَكْفِيُّ ، هُوَ الَّذِي يَكْسِرُ وَيَجْبُرُ وَيَجْرَحُ وَيُدَاوِي .
قَالَ
أَيُّوبُ : لِذَلِكَ سَكَتُّ فَعَضَضْتُ عَلَى لِسَانِي ، وَوَضَعْتُ لِسُوءِ الْخِدْمَةِ رَأْسِي ، لِأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ عُقُوبَتَهُ غَيَّرَتْ نُورَ وَجْهِي ، وَأَنَّ قُوَّتَهُ نَزَعَتْ قُوَّةَ جَسَدِي ، فَأَنَا عَبْدُهُ ، مَا قَضَى عَلَيَّ أَصَابَنِي ، وَلَا قُوَّةَ لِي إِلَّا مَا حَمَلَ عَلَيَّ ، لَوْ كَانَتْ عِظَامِي مِنْ حَدِيدٍ ، وَجَسَدِي مِنْ نُحَاسٍ ، وَقَلْبِي مِنْ حِجَارَةٍ ، لَمْ أُطِقْ هَذَا الْأَمْرَ ، وَلَكِنَّ هُوَ ابْتَلَانِي ، وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَنِّي ، أَتَيْتُمُونِي غِضَابًا ، رَهِبْتُمْ قَبْلَ أَنْ تُسْتَرْهَبُوا ، وَبَكَيْتُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُضْرَبُوا ، كَيْفَ بِي لَوْ قُلْتُ لَكُمْ : تَصَدَّقُوا عَنِّي بِأَمْوَالِكُمْ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي ، أَوْ قَرِّبُوا عَنِّي قُرْبَانًا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنِّي وَيَرْضَى عَنِّي ، إِذَا اسْتَيْقَظْتُ تَمَنَّيْتُ النَّوْمَ رَجَاءَ أَنْ أَسْتَرِيحَ ، فَإِذَا نِمْتُ كَادَتْ تَجُودُ نَفْسِي ، تَقَطَّعَتْ أَصَابِعِي ، فَإِنِّي لَأَرْفَعُ اللُّقْمَةَ مِنَ الطَّعَامِ بِيَدَيَّ جَمِيعًا فَمَا تَبْلُغَانِ فَمِي إِلَّا عَلَى الْجُهْدِ مِنِّي ، تَسَاقَطَتْ لَهَوَاتِي وَنَخِرَ رَأْسِي ، فَمَا بَيْنَ أُذُنَيَّ مِنْ سَدَادٍ حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَتُرَى مِنَ الْأُخْرَى ، وَإِنَّ دِمَاغِي لَيَسِيلُ مِنْ فَمِي ، تَسَاقَطَ شَعْرِي عَنِّي ، فَكَأَنَّمَا حُرِّقَ بِالنَّارِ وَجْهِي ، وَحَدَقَتَايَ هُمَا مُتَدَلِّيَتَانِ عَلَى
[ ص: 489 ] خَدِّي ، وَرِمَ لِسَانِي حَتَّى مَلَأَ فَمِي ، فَمَا أُدْخِلُ فِيهِ طَعَامًا إِلَّا غَصَّنِي ، وَوَرِمَتْ شَفَتَايَ حَتَّى غَطَّتِ الْعُلْيَا أَنْفِي ، وَالسُّفْلَى ذَقَنِي ، تَقَطَّعَتْ أَمْعَائِي فِي بَطْنِي ، فَإِنِّي لَأُدْخِلُ الطَّعَامَ فَيَخْرُجُ كَمَا دَخَلَ ، مَا أُحِسُّهُ وَلَا يَنْفَعُنِي ، ذَهَبَتْ قُوَّةَ رِجْلِي ، فَكَأَنَّهُمَا قِرْبَتَا مَاءٍ مُلِئَتَا ، لَا أُطِيقُ حَمْلَهُمَا ، أَحْمِلُ لِحَافِي بِيَدَيِّ وَأَسْنَانِي ، فَمَا أُطِيقُ حَمْلَهُ حَتَّى يَحَمِلَهُ مَعِي غَيْرِي ، ذَهَبَ الْمَالُ فَصِرْتُ أَسْأَلُ بِكَفِّي ، فَيُطْعِمُنِي مَنْ كُنْتُ أَعُولُهُ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ ، فَيَمُنُّهَا عَلَيَّ وَيُعَيِّرُنِي ، هَلَكَ بَنِيَّ وَبَنَاتِي ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَعَانَنِي عَلَى بَلَائِي وَنَفَعَنِي ، وَلَيْسَ الْعَذَابُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا ، إِنَّهُ يَزُولُ عَنْ أَهْلِهَا وَيَمُوتُونَ عَنْهُ ، وَلَكِنْ طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ رَاحَةٌ فِي الدَّارِ الَّتِي لَا يَمُوتُ أَهْلُهَا ، وَلَا يَتَحَوَّلُونَ عَنْ مَنَازِلِهِمُ ، السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ هُنَالِكَ وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِيهَا .
قَالَ
بِلْدَدُ : كَيْفَ يَقُومُ لِسَانُكَ بِهَذَا الْقَوْلِ ، وَكَيْفَ تُفْصِحُ بِهِ ، أَتَقُولُ إِنَّ الْعَدْلَ يَجُورُ ، أَمْ تَقُولُ إِنَّ الْقَوِيَّ يَضْعُفُ ؟ ابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ وَتَضَرَّعْ إِلَى رَبِّكَ عَسَى أَنْ يَرْحَمَكَ ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ ذَنْبِكَ ، وَعَسَى إِنْ كُنْتَ بَرِيئًا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا لَكَ ذُخْرًا فِي آخِرَتِكَ ، وَإِنْ كَانَ قَلْبُكَ قَدْ قَسَا فَإِنَّ قَوْلَنَا لَنْ يَنْفَعَكَ ، وَلَنْ يَأْخُذَ فِيكَ ، هَيْهَاتَ أَنْ تَنْبُتَ الْآجَامُ فِي الْمَفَاوِزِ ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَنْبُتَ الْبَرْدِيُّ فِي الْفَلَاةِ ، مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الضَّعِيفِ كَيْفَ يَرْجُو أَنْ يَمْنَعَهُ ، وَمَنْ جَحَدَ الْحَقَّ كَيْفَ يَرْجُو أَنْ يُوَفَّى حَقَّهُ ؟
قَالَ
أَيُّوبُ : إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ ، لَنْ يَفْلُجَ الْعَبْدُ عَلَى رَبِّهِ ، وَلَا يُطِيقَ أَنْ يُخَاصِمَهُ ، فَأَيُّ كَلَامٍ لِي مَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ إِلَيَّ الْقُوَّةُ هُوَ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ فَأَقَامَهَا وَحْدَهُ ، وَهُوَ الَّذِي يَكْشِطُهَا إِذَا شَاءَ فَتَنْطَوِي لَهُ ، وَهُوَ الَّذِي سَطَحَ الْأَرْضَ فَدَحَاهَا وَحْدَهُ ، وَنَصَبَ فِيهَا الْجِبَالَ الرَّاسِيَاتِ ، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يُزَلْزِلُهَا مِنْ أُصُولِهَا حَتَّى تَعُودَ أَسَافِلُهَا أَعَالِيَهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيَّ الْكَلَامُ ، فَأَيُّ كَلَامٍ لِي مَعَهُ ، مَنْ خَلَقَ الْعَرْشَ الْعَظِيمَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَحَشَاهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلْقِ ، فَوَسَّعَهُ وَهُوَ فِي سَعَةٍ وَاسِعَةٍ ، وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ الْبِحَارَ فَفَهِمَتْ قَوْلَهُ ، وَأَمْرَهَا فَلَمْ تَعْدُ أَمْرَهُ ، وَهُوَ الَّذِي يَفْقَهُ الْحِيتَانَ وَالطَّيْرَ وَكُلَّ دَابَّةٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُكَلِّمُ الْمَوْتَى فَيُحْيِيهِمْ قَوْلُهُ ، وَيُكَلِّمُ الْحِجَارَةَ فَتَفْهَمُ قَوْلَهُ وَيَأْمُرُهَا فَتُطِيعُهُ .
قَالَ
أَلْيَفَزُ : عَظِيمٌ مَا تَقُولُ يَا
أَيُّوبُ ، إِنَّ الْجُلُودَ لَتَقْشَعِرُّ مِنْ ذِكْرِ مَا تَقُولُ ،
[ ص: 490 ] إِنَّمَا أَصَابَكَ مَا أَصَابَكَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ أَذْنَبْتَهُ ، مِثْلَ هَذِهِ الْحِدَّةِ ، وَهَذَا الْقَوْلِ أَنْزَلَكَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ ، عَظُمَتْ خَطِيئَتُكَ ، وَكَثُرَ طُلَّابُكَ ، وَغَصَبْتَ أَهْلَ الْأَمْوَالِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، فَلَبِسْتَ وَهُمْ عُرَاةٌ ، وَأَكَلْتَ وَهُمْ جِيَاعٌ ، وَحَبَسْتَ عَنِ الضَّعِيفِ بَابَكَ ، وَعَنِ الْجَائِعِ طَعَامَكَ ، وَعَنِ الْمُحْتَاجِ مَعْرُوفَكَ ، وَأَسْرَرْتَ ذَلِكَ وَأَخْفَيْتَهُ فِي بَيْتِكَ ، وَأَظْهَرْتَ أَعْمَالًا كُنَّا نَرَاكَ تَعْمَلُهَا ، فَظَنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْزِيكَ إِلَّا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْكَ ، وَظَنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا غَيَّبْتَ فِي بَيْتِكَ ، وَكَيْفَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا غَيَّبَتِ الْأَرْضُونَ وَمَا تَحْتَ الظُّلُمَاتِ وَالْهَوَاءِ ؟ .
قَالَ
أَيُّوبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ تَكَلَّمْتُ لَمْ يَنْفَعْنِي الْكَلَامُ ، وَإِنَّ سَكَتُّ لَمْ تَعْذُرُونِي ، قَدْ وَقَعَ عَلَيَّ كَيْدِي ، وَأَسْخَطْتُّ رَبِّي بِخَطِيئَتِي ، وَأَشْمَتُّ أَعْدَائِي ، وَأَمْكَنْتُهُمْ مِنْ عُنُقِي ، وَجَعَلْتُنِي لِلْبَلَاءِ غَرَضًا ، وَجَعَلْتُنِي لِلْفِتْنَةِ نُصْبًا ، لَمْ تُنْفِسْنِي مَعَ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ أَتْبَعَنِي بِبَلَاءٍ عَلَى إِثْرِ بَلَاءٍ ، أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا ، وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا ، وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا ، وَلِلْأَرْمَلَةِ قَيِّمًا ؟ مَا رَأَيْتُ غَرِيبًا إِلَّا كُنْتُ لَهُ دَارًا مَكَانَ دَارِهِ وَقَرَارًا مَكَانَ قَرَارِهِ ، وَلَا رَأَيْتُ مِسْكِينًا إِلَّا كُنْتُ لَهُ مَالًا مَكَانَ مَالِهِ وَأَهْلًا مَكَانَ أَهْلِهِ ، وَمَا رَأَيْتُ يَتِيمًا إِلَّا كُنْتُ لَهُ أَبًا مَكَانَ أَبِيهِ ، وَمَا رَأَيْتُ أَيِّمًا إِلَّا كُنْتُ لَهَا قَيِّمًا تَرْضَى قِيَامَهُ ، وَأَنَا عَبْدٌ ذَلِيلٌ ، إِنْ أَحْسَنْتُ لَمْ يَكُنْ لِي كَلَامٌ بِإِحْسَانٍ ، لِأَنَّ الْمَنَّ لِرَبِّي وَلَيْسَ لِي ، وَإِنْ أَسَأْتُ فَبِيَدِهِ عُقُوبَتِي ، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيَّ بَلَاءٌ لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جَبَلٍ ضَعُفَ عَنْ حَمْلِهِ ، فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ ضَعْفِي ؟ .
قَالَ
أَلْيَفَزُ : أَتُحَاجُّ اللَّهَ يَا
أَيُّوبُ فِي أَمْرِهِ ، أَمْ تُرِيدُ أَنْ تُنَاصِفَهُ وَأَنْتَ خَاطِئٌ ، أَوْ تُبَرِّئَهَا وَأَنْتَ غَيْرُ بَرِيءٍ ؟ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَأَحْصَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلْقِ ، فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ مَا أَسْرَرْتَ ، وَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ مَا عَمِلْتَ فَيَجْزِيَكَ بِهِ ؟ وَضَعَ اللَّهُ مَلَائِكَةً صُفُوفًا حَوْلَ عَرْشِهِ وَعَلَى أَرْجَاءِ سَمَاوَاتِهِ ، ثُمَّ احْتَجَبَ بِالنُّورِ ، فَأَبْصَارُهُمْ عَنْهُ كَلَيْلَةٌ ، وَقُوَّتُهُمْ عَنْهُ ضَعِيفَةٌ ، وَعَزِيزُهُمْ عَنْهُ ذَلِيلٌ ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنْ لَوْ خَاصَمَكَ ، وَأَدْلَى إِلَى الْحُكْمِ مَعَكَ ، وَهَلْ تَرَاهُ فَتُنَاصِفُهُ ، أَمْ هَلْ تَسْمَعُهُ فَتُحَاوِرُهُ ؟ قَدْ عَرَفْنَا فِيكَ قَضَاءَهُ ، إِنَّهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَفِعَ وَضَعَهُ ، وَمَنِ اتَّضَعَ لَهُ رَفَعَهُ .
قَالَ
أَيُّوبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ أَهْلَكَنِي فَمَنْ ذَا الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ فِي عَبْدِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ أَمْرِهِ ، لَا يَرُدُّ غَضَبَهُ شَيْءٌ إِلَّا رَحْمَتُهُ ، وَلَا يَنْفَعُ عَبْدَهُ إِلَّا التَّضَرُّعُ
[ ص: 491 ] لَهُ ، قَالَ : رَبِّ أَقْبِلْ عَلَيَّ بِرَحْمَتِكَ ، وَأَعْلِمْنِي مَا ذَنْبِي الَّذِي أَذْنَبْتُ ؟ أَوْ لِأَيِّ شَيْءٍ صَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي ، وَجَعَلْتَنِي لَكَ مِثْلَ الْعَدُوِّ ، وَقَدْ كُنْتَ تُكْرِمُنِي ، لَيْسَ يَغِيبُ عَنْكَ شَيْءٌ تُحْصِي قَطْرَ الْأَمْطَارِ ، وَوَرَقَ الْأَشْجَارِ ، وَذَرَّ التُّرَابِ ، أَصْبَحَ جِلْدِي كَالثَّوْبِ الْعَفِنِ ، بِأَيِّهِ أَمْسَكْتُ سَقَطَ فِي يَدِي ، فَهَبْ لِي قُرْبَانًا مِنْ عِنْدِكَ ، وَفَرَجًا مِنْ بَلَائِي بِالْقُدْرَةِ الَّتِي تَبْعَثُ مَوْتَى الْعِبَادِ ، وَتُنْشِرُ بِهَا مَيِّتَ الْبِلَادِ ، وَلَا تُهْلِكْنِي بِغَيْرِ أَنْ تُعْلِمَنِي مَا ذَنْبِي ، وَلَا تُفْسِدْ عَمَلَ يَدَيْكَ ، وَإِنْ كُنْتَ غَنِيًّا عَنِّي ، لَيْسَ يَنْبَغِي فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ ، وَلَا فِي نِقْمَتِكَ عَجَلٌ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الظُّلْمِ الضَّعِيفُ ، وَإِنَّمَا يُعَجِّلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ ، وَلَا تُذَكِّرْنِي خَطَئِي وَذُنُوبِي ، اذْكُرْ كَيْفَ خَلَقْتَنِي مِنْ طِينٍ ، فَجُعِلْتُ مُضْغَةً ، ثُمَّ خَلَقْتَ الْمُضْغَةَ عِظَامًا ، وَكَسَوْتَ الْعِظَامَ لَحْمًا وَجِلْدًا ، وَجَعَلْتَ الْعَصَبَ وَالْعُرُوقَ لِذَلِكَ قَوَامًا وَشَدَّةً ، وَرَبَّيْتَنِي صَغِيرًا ، وَرَزَقْتَنِي كَبِيرًا ، ثُمَّ حَفِظْتُ عَهْدَكَ وَفَعَلْتُ أَمْرَكَ ، فَإِنْ أَخْطَأَتُ فَبَيِّنْ لِي ، وَلَا تُهْلِكْنِي غَمًّا ، وَأَعْلِمْنِي ذَنْبِي ، فَإِنْ لَمْ أَرْضَكَ فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ تُعَذِّبَنِي ، وَإِنْ كُنْتُ مِنْ بَيْنِ خَلْقِكَ تُحْصِي عَلَيَّ عَمَلِي وَأَسْتَغْفِرُكَ فَلَا تَغْفِرُ لِي ، إِنْ أَحْسَنْتُ لَمْ أَرْفَعْ رَأْسِي ، وَإِنْ أَسَأْتُ لَمْ تُبْلِعْنِي رِيقِي ، وَلَمْ تُقِلْنِي عَثْرَتِي ، وَقَدْ تَرَى ضَعْفِي تَحْتَكَ ، وَتَضَرُّعِي لَكَ ، فَلِمَ خَلَقْتَنِي ، أَوْ لِمَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي ، لَوْ كُنْتُ كَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَكَانَ خَيْرًا لِي ، فَلَيْسَتِ الدُّنْيَا عِنْدِي بِخَطَرٍ لِغَضَبِكَ ، وَلَيْسَ جَسَدِي يَقُومُ بِعَذَابِكَ ، فَارْحَمْنِي وَأَذِقْنِي طَعْمَ الْعَافِيَةَ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَصِيرَ إِلَى ضِيقِ الْقَبْرِ وَظُلْمَةِ الْأَرْضِ ، وَغَمِّ الْمَوْتِ .
قَالَ
صَافِرُ : قَدْ تَكَلَّمْتَ يَا
أَيُّوبُ ، وَمَا يُطِيقُ أَحَدٌ أَنْ يَحْبِسَ فَمَكَ ، تَزْعُمُ أَنَّكَ بَرِيءٌ ، فَهَلْ يَنْفَعُكَ إِنْ كُنْتَ بَرِيئًا وَعَلَيْكَ مَنْ يُحْصِي عَمَلَكَ ، وَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَكَ ذُنُوبَكَ ، هَلْ تَعْلَمُ سُمْكَ السَّمَاءِ كَمْ بُعْدُهُ ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ عُمْقَ الْهَوَاءِ كَمْ بُعْدُهُ ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ أَيُّ الْأَرْضِ أَعْرَضُهَا ؟ أَمْ عِنْدَكَ لَهَا مِنْ مِقْدَارٍ تُقَدِّرُهَا بِهِ ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ أَيُّ الْبَحْرِ أَعْمَقُهُ ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْبِسُهُ ؟ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْعِلْمَ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَعْلَمُهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ وَهُوَ يُحْصِيهِ ، لَوْ تَرَكْتَ كَثْرَةَ الْحَدِيثِ ، وَطَلَبْتَ إِلَى رَبِّكَ رَجَوْتَ أَنْ يَرْحَمَكَ ، فَبِذَلِكَ تَسْتَخْرِجُ رَحْمَتَهُ ، وَإِنْ كُنْتَ تُقِيمُ عَلَى خَطِيئَتِكَ وَتَرْفَعُ إِلَى اللَّهِ يَدَيْكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنْتَ مُصِرٌّ عَلَى ذَنْبِكَ إِصْرَارَ الْمَاءِ الْجَارِي فِي صَبَبٍ لَا يُسْتَطَاعُ إِحْبَاسُهُ ، فَعِنْدَ طَلَبِ الْحَاجَاتِ
[ ص: 492 ] إِلَى الرَّحْمَنِ تَسْوَدُّ وُجُوهُ الْأَشْرَارِ ، وَتُظْلِمُ عُيُونُهُمْ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَرُّ بِنَجَاحِ حَوَائِجِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الشَّهَوَاتِ تَزَيُّنًا بِذَلِكَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَتَقَدَّمُوا فِي التَّضَرُّعِ ، لِيَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ الرَّحْمَةَ حِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا ، وَهُمُ الَّذِينَ كَابَدُوا اللَّيْلَ ، وَاعْتَزَلُوا الْفَرْشَ ، وَانْتَظَرُوا الْأَسْحَارَ .
قَالَ
أَيُّوبُ : أَنْتُمْ قَوْمٌ قَدْ أَعْجَبَتْكُمْ أَنْفُسُكُمْ ، وَقَدْ كُنْتُ فِيمَا خَلَا وَالرِّجَالُ يُوَقِّرُونَنِي ، وَأَنَا مَعْرُوفٌ حَقِّي مُنْتَصِفٌ مَنْ خَصْمِي ، قَاهِرٌ لِمَنْ هُوَ الْيَوْمَ يَقْهَرُنِي ، يَسْأَلُنِي عَنْ عِلْمِ غَيْبِ اللَّهِ لَا أَعْلَمُهُ وَيَسْأَلُنِي ، فَلَعَمْرِي مَا نَصَحَ الْأَخُ لِأَخِيهِ حِينَ نَزَلَ بِهِ الْبَلَاءُ كَذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ يَبْكِي مَعَهُ ، وَإِنْ كُنْتَ جَادًّا فَإِنَّ عَقْلِي يَقْصُرُ عَنِ الَّذِي تَسْأَلُنِي عَنْهُ ، فَسَلْ طَيْرَ السَّمَاءِ هَلْ تُخْبِرُكَ ، وَسَلْ وُحُوشَ الْأَرْضِ هَلْ تَرْجِعُ إِلَيْكَ ؟ وَسَلْ سِبَاعَ الْبَرِّيَّةِ هَلْ تُجِيبُكَ ؟ وَسَلْ حِيتَانَ الْبَحْرِ هَلْ تَصِفُ لَكَ كُلَّ مَا عَدَدْتَ ؟ تَعْلَمُ أَنْ صَنَعَ هَذَا بِحِكْمَتِهِ ، وَهَيَّأَهُ بِلُطْفِهِ . أَمَا يَعْلَمُ ابْنُ آدَمَ مِنَ الْكَلَامِ مَا سَمِعَ بِأُذُنَيْهِ ، وَمَا طَعِمَ بِفِيهِ ، وَمَا شَمَّ بِأَنْفِهِ ، وَأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُ ، لَهُ الْحِكْمَةُ وَالْجَبَرُوتُ ، وَلَهُ الْعَظَمَةُ وَاللُّطْفُ ، وَلَهُ الْجَلَالُ وَالْقُدْرَةُ ، إِنْ أَفْسَدَ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُصْلِحُ ؟ وَإِنْ أَعْجَمَ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُفْصِحُ ؟ إِنْ نَظَرَ إِلَى الْبِحَارِ يَبِسَتْ مِنْ خَوْفِهِ ، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا ابْتَلَعَتِ الْأَرْضَ ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُهَا بِقُدْرَتِهِ هُوَ الَّذِي تَبْهَتُ الْمُلُوكُ عِنْدَ مُلْكِهِ ، وَتَطِيشُ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عِلْمِهِ ، وَتَعْيَا الْحُكَمَاءُ عِنْدَ حِكْمَتِهِ ، وَيَخْسَأُ الْمُبْطِلُونَ عِنْدَ سُلْطَانِهِ ، هُوَ الَّذِي يُذَكِّرُ الْمَنْسِيَّ ، وَيُنْسِي الْمَذْكُورَ ، وَيُجْرِي الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ، هَذَا عِلْمِي ، وَخَلْقُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهُ عَقْلِي ، وَعَظْمَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَدِّرَهَا مِثْلِي .
قَالَ
بِلْدَدُ : إِنَّ الْمُنَافِقَ يُجْزَى بِمَا أَسَرَّ مِنْ نِفَاقِهِ ، وَتَضِلُّ عَنْهُ الْعَلَانِيَةُ الَّتِي خَادَعَ بِهَا ، وَتَوَكَّلَ عَلَى الْجَزَاءِ بِهَا الَّذِي عَمِلَهَا ، وَيَهْلَكُ ذِكْرُهُ مِنَ الدُّنْيَا وَيُظْلِمُ نُورُهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَيُوحِشُ سَبِيلُهُ ، وَتُوقِعُهُ فِي الْأُحْبُولَةِ سَرِيرَتُهُ ، وَيَنْقَطِعُ اسْمُهُ مِنَ الْأَرْضِ ، فَلَا ذِكْرَ فِيهَا وَلَا عُمْرَانَ ، لَا يَرِثُهُ وَلَدٌ مُصْلِحُونَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَلَا يَبْقَى لَهُ أَصِلٌ يُعْرَفُ بِهِ ، وَيَبْهَتُ مَنْ يَرَاهُ ، وَتَقِفُ الْأَشْعَارُ عِنْدَ ذِكْرِهِ .
قَالَ
أَيُّوبُ : إِنْ أَكُنْ غَوِيًّا فَعَلِيَّ غَوَايَ ، وَإِنْ أَكُنْ بَرِيًّا فَأَيُّ مَنَعَةٍ عِنْدِي ، إِنْ صَرَخْتُ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُصْرِخُنِي ، وَإِنْ سَكَتُّ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَعْذُرُنِي ، ذَهَبَ رَجَائِي وَانْقَضَتْ أَحْلَامِي ، وَتَنَكَّرَتْ لِي مَعَارِفِي; دَعَوْتُ غُلَامِي فَلَمْ يُجِبْنِي ،
[ ص: 493 ] وَتَضَرَّعْتُ لِأُمَّتِي فَلَمْ تَرْحَمْنِي ، وَقَعَ عَلَيَّ الْبَلَاءُ فَرَفَضُونِي ، أَنْتُمْ كُنْتُمْ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ مُصِيبَتِي ، انْظُرُوا وَابْهَتُوا مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي فِي جَسَدِي ، أَمَا سَمِعْتُمْ بِمَا أَصَابَنِي ، وَمَا شَغَلَكُمْ عَنِّي مَا رَأَيْتُمْ بِي ، لَوْ كَانَ عَبْدٌ يُخَاصِمُ رَبَّهُ رَجَوْتُ أَنْ أَتَغَلَّبَ عِنْدَ الْحُكْمِ ، وَلَكِنَّ لِي رَبًّا جَبَّارًا تَعَالَى فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ ، وَأَلْقَانِي هَاهُنَا ، وَهُنْتُ عَلَيْهِ ، لَا هُوَ عَذَرَنِي بِعُذْرِي ، وَلَا هُوَ أَدْنَانِي فَأُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِي يَسْمَعُنِي وَلَا أَسْمَعُهُ ، وَيَرَانِي وَلَا أَرَاهُ ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِي ، وَلَوْ تَجَلَّى لِي لَذَابَتْ كُلْيَتَايَ ، وَصَعِقَ رُوحِي ، وَلَوْ نَفَسَنِي فَأَتَكَلَّمُ بِمِلْءِ فَمِي ، وَنَزَعَ الْهَيْبَةَ مِنِّي ، عَلِمْتُ بِأَيِّ ذَنْبٍ عَذَّبَنِي ، نُودِيَ فَقِيلَ : يَا
أَيُّوبُ ، قَالَ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : أَنَا هَذَا قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ ، فَقُمْ فَاشْدُدْ إِزَارَكَ ، وَقُمْ مَقَامَ جَبَّارٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلَّا جَبَّارٌ مِثْلِي ، وَلَا يَنْبَغِيَ أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلَّا مَنْ يَجْعَلُ الزُّنَّارَ فِي فَمِ الْأَسَدِ ، وَالسِّخَالَ فِي فَمِ الْعَنْقَاءِ ، وَاللَّحْمَ فِي فَمِ التِّنِّينِ ، وَيَكِيلُ مِكْيَالًا مِنَ النُّورِ ، وَيَزِنُ مِثْقَالَا مِنَ الرِّيحِ ، وَيُصِرُّ صُرَّةً مِنَ الشَّمْسِ ، وَيَرُدُّ أَمْسَ لِغَدٍ ، لَقَدْ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ أَمْرًا مَا يَبْلُغُ بِمِثْلِ قُوَّتِكَ ، وَلَوْ كُنْتَ إِذْ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ ذَلِكَ وَدَعَتْكَ إِلَيْهِ تَذَكَّرْتَ أَيَّ مَرَامٍ رَامَ بِكَ ، أَرَدْتَ أَنْ تُخَاصِمَنِي بِغَيِّكَ ؟ أَمْ أَرَدْتَ أَنْ تُحَاجِيَنِي بِخَطَئِكَ ، أَمْ أَرَدْتَ أَنْ تُكَاثِرَنِي بِضَعْفِكَ ، أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ الْأَرْضَ فَوَضَعْتُهَا عَلَى أَسَاسِهَا ، هَلْ عَلِمْتَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ قَدَّرْتُهَا ؟ أَمْ كُنْتَ مَعِي تَمُرُّ بِأَطْرَافِهَا ؟ أَمْ تَعْلَمُ مَا بُعْدُ زَوَايَاهَا ؟ أَمْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَضَعْتُ أَكْنَافَهَا ؟ أَبِطَاعَتِكَ حُمِلَ مَاءُ الْأَرْضِ ؟ أَمْ بِحِكْمَتِكَ كَانَتِ الْأَرْضُ لِلْمَاءِ غِطَاءً ، أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ رَفَعْتُ السَّمَاءَ سَقْفًا فِي الْهَوَاءِ لَا بِعَلَائِقَ ثَبَتَتْ مِنْ فَوْقِهَا ، وَلَا يَحْمِلُهَا دَعَائِمُ مِنْ تَحْتِهَا ، هَلْ يَبْلُغُ مِنْ حِكْمَتِكَ أَنْ تُجْرِيَ نُورَهَا ، أَوْ تُسَيِّرَ نُجُومَهَا ، أَوْ يَخْتَلِفَ بِأَمْرِكَ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا ، أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ سَجَّرْتُ الْبِحَارَ وَأَنْبَعْتُ الْأَنْهَارَ ؟ أَقُدْرَتُكَ حَبَسَتْ أَمْوَاجَ الْبِحَارِ عَلَى حُدُودِهَا ؟ أَمْ قُدْرَتُكَ فَتَحَتِ الْأَرْحَامَ حِينَ بَلَغَتْ مُدَّتَهَا ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ صَبَبْتُ الْمَاءَ عَلَى التُّرَابِ ، وَنَصَبْتُ شَوَامِخَ الْجِبَالِ ، هَلْ لَكَ مِنْ ذِرَاعٍ تُطِيقُ حَمْلَهَا ، أَمْ هَلْ تَدْرِي كَمْ مِثْقَالٍ فِيهَا ، أَمْ أَيْنَ الْمَاءُ الَّذِي أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ ؟ هَلْ تَدْرِي أُمًّا تَلِدُهُ أَوْ أَبًا يُولِدُهُ ؟ أَحِكْمَتُكَ أَحْصَتِ الْقَطْرَ وَقَسَّمَتِ الْأَرْزَاقَ ، أَمْ قُدْرَتُكَ تُثِيرُ السَّحَابَ ، وَتَغُشِّيهِ الْمَاءَ ؟ هَلْ تَدْرِي مَا
[ ص: 494 ] أَصْوَاتُ الرُّعُودِ ؟ أَمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ لَهَبُ الْبُرُوقِ ؟ هَلْ رَأَيْتَ عُمْقَ الْبُحُورِ ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مَا بُعْدُ الْهَوَاءِ ، أَمْ هَلْ خَزَنْتَ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ خِزَانَةُ الثَّلْجِ ، أَوْ أَيْنَ خَزَائِنُ الْبَرْدِ ، أَمْ أَيْنَ جِبَالُ الْبَرْدِ ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ خِزَانَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ ، وَأَيْنَ خِزَانَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ ؟ وَأَيْنَ طَرِيقُ النُّورِ ؟ وَبِأَيِّ لُغَةٍ تَتَكَلَّمُ الْأَشْجَارُ ؟ وَأَيْنَ خِزَانَةُ الرِّيحِ ، كَيْفَ تَحْبِسُهُ الْأَغْلَاقُ ؟ وَمَنْ جَعَلَ الْعُقُولَ فِي أَجْوَافِ الرِّجَالِ ؟ وَمَنْ شَقَّ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ ، وَمَنْ ذَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ لِمُلْكِهِ ، وَقَهَرَ الْجَبَّارِينَ بِجَبَرُوتِهِ ، وَقَسَّمَ أَرْزَاقَ الدَّوَابِّ بِحِكْمَتِهِ ، وَمَنْ قَسَّمَ لِلْأُسْدِ أَرْزَاقَهَا وَعَرَّفَ الطَّيْرَ مَعَايِشَهَا ، وَعَطَّفَهَا عَلَى أَفْرَاخِهَا ، مَنْ أَعْتَقَ الْوَحْشَ مِنَ الْخِدْمَةِ ، وَجَعَلَ مَسَاكِنَهَا الْبَرِّيَّةَ لَا تُسْتَأْنَسُ بِالْأَصْوَاتِ ، وَلَا تَهَابُ الْمُسَلَّطِينَ ، أَمِنْ حِكْمَتِكَ تَفَرَّعَتْ أَفْرَاخُ الطَّيْرِ ، وَأَوْلَادُ الدَّوَابِّ لِأُمَّهَاتِهَا ؟ أَمْ مِنْ حِكْمَتِكَ عَطَفَتْ أُمَّهَاتُهَا عَلَيْهَا ، حَتَّى أَخْرَجَتْ لَهَا الطَّعَامَ مِنْ بُطُونِهَا ، وَآثَرَتْهَا بِالْعَيْشِ عَلَى نُفُوسِهَا ؟ أَمْ مِنْ حِكْمَتِكَ يُبْصِرُ الْعُقَابُ ، فَأَصْبَحَ فِي أَمَاكِنِ الْقَتْلَى أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ بَهْمُوتَ مَكَانَهُ فِي مُنْقَطِعِ التُّرَابِ ، وَالْوَتْيَنَانِ يَحْمِلَانِ الْجِبَالَ وَالْقُرَى وَالْعُمْرَانَ ، آذَانُهُمَا كَأَنَّهَا شَجَرُ الصَّنَوْبَرِ الطِّوَالُ رُءُوسُهُمَا كَأَنَّهَا آكَامُ الْجِبَالِ ، وَعُرُوقُ أَفْخَاذِهِمَا كَأَنَّهَا أَوْتَادُ الْحَدِيدِ ، وَكَأَنَّ جُلُودَهُمَا فِلَقُ الصُّخُورِ ، وَعِظَامُهُمَا كَأَنَّهَا عُمُدُ النُّحَاسِ ، هُمَا رَأْسَا خَلْقِي الَّذِينَ خَلَقْتُ لِلْقِتَالِ ، أَأَنْتَ مَلَأْتَ جُلُودَهُمَا لَحْمًا ؟ أَمْ أَنْتَ مَلَأْتَ رُءُوسَهُمَا دِمَاغًا ؟ أَمْ هَلْ لَكَ فِي خَلْقِهِمَا مِنْ شِرْكٍ ؟ أَمْ لَكَ بِالْقُوَّةِ الَّتِي عَمِلَتْهُمَا يَدَانِ ؟ أَوْ هَلْ يَبْلُغُ مِنْ قُوَّتِكَ أَنْ تَخْطِمَ عَلَى أُنُوفِهِمَا أَوْ تَضَعَ يَدَكَ عَلَى رُؤُوسِهِمَا ، أَوْ تَقْعُدَ لَهُمَا عَلَى طَرِيقٍ فَتَحْبِسُهُمَا ، أَوْ تَصُدُّهُمَا عَنْ قُوَّتِهِمَا ؟ أَيْنَ أَنْتَ يَوْمَ خَلَقْتُ التِّنِّينَ وَرِزْقَهُ فِي الْبَحْرِ ، وَمَسْكَنَهُ فِي السَّحَابِ ، عَيْنَاهُ تُوقِدَانِ نَارًا ، وَمَنْخَرَاهُ يَثُورَانِ دُخَانًا ، أُذُنَاهُ مِثْلُ قَوْسِ السَّحَابِ ، يَثُورُ مِنْهُمَا لَهَبٌ كَأَنَّهُ إِعْصَارُ الْعَجَاجِ ، جَوْفُهُ يَحْتَرِقُ وَنَفَسُهُ يَلْتَهِبُ ، وَزَبَدُهُ كَأَمْثَالِ الصُّخُورِ ، وَكَأَنَّ صَرِيفَ أَسْنَانِهِ صَوْتُ الصَّوَاعِقِ ، وَكَأَنَّ نَظَرَ عَيْنَيْهِ لَهَبُ الْبَرْقِ ، أَسْرَارُهُ لَا تَدْخُلُهُ الْهُمُومُ ، تَمُرُّ بِهِ الْجُيُوشُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ ، لَا يُفْزِعُهُ شَيْءٌ لَيْسَ فِيهِ
[ ص: 495 ] مَفْصِلٌ ، [ زُبَرُ ] الْحَدِيدِ عِنْدَهُ مِثْلُ التِّينِ ، وَالنُّحَاسُ عِنْدَهُ مِثْلُ الْخُيُوطِ ، لَا يَفْزَعُ مِنَ النُّشَّابِ ، وَلَا يُحِسُّ وَقْعَ الصُّخُورِ عَلَى جَسَدِهِ ، وَيَضْحَكُ مِنَ النَّيَازِكِ ، وَيَسِيرُ فِي الْهَوَاءِ كَأَنَّهُ عُصْفُورٌ ، وَيَهْلَكُ كُلُّ شَيْءٍ يَمُرُّ بِهِ مَلَكُ الْوُحُوشِ ، وَإِيَّاهُ آثَرْتُ بِالْقُوَّةِ عَلَى خَلْقِي ، هَلْ أَنْتَ آخِذُهُ بِأُحْبُولَتِكَ فَرَابِطُهُ بِلِسَانِهِ ، أَوْ وَاضِعٌ اللِّجَامَ فِي شِدْقِهِ ، أَتُظَنُّهُ يُوفِي بِعَهْدِكَ ، أَوْ يُسْبِّحُ مِنْ خَوْفِكَ ؟ هَلْ تُحْصِي عُمْرَهُ ، أَمْ هَلْ تَدْرِي أَجْلَهُ ، أَوْ تُفَوِّتُ رِزْقَهُ ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مَاذَا خَرَّبَ مِنَ الْأَرْضِ ؟ أَمْ مَاذَا يُخَرِّبُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ ؟ أَتُطِيقُ غَضَبَهُ حِينَ يَغْضَبُ أَمْ تَأْمُرُهُ فَيُطِيعُكَ ؟ تَبَارَكَ اللَّهُ وَتَعَالَى !
قَالَ
أَيُّوبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَصُرْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَعَرَّضَ لِي ، لَيْتَ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ بِي ، فَذَهَبْتُ فِي بَلَائِي وَلَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ يُسْخِطُ رَبِّي ، اجْتَمَعَ عَلَيَّ الْبَلَاءُ ، إِلَهِي حَمَلْتَنِي لَكَ مِثْلَ الْعَدُوِّ ، وَقَدْ كُنْتَ تُكْرِمُنِي وَتَعْرِفُ نُصْحِي ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرْتَ صُنْعَ يَدَيْكَ وَتَدْبِيرَ حِكْمَتِكَ ، وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا مَا شِئْتَ عَمِلْتَ ، لَا يُعْجِزُكَ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ خَافِيَةٌ ، وَلَا تَغِيبُ عَنْكَ غَائِبَةٌ ، مَنْ هَذَا الَّذِي يَظُنُّ أَنْ يُسِرَّ عَنْكَ سِرًّا ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا يَخْطُرُ عَلَى الْقُلُوبِ ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ مِنْكَ فِي بَلَائِي هَذَا مَا لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ ، وَخِفْتُ حِينَ بَلَوْتُ أَمْرِكَ أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتُ أَخَافُ ، إِنَّمَا كُنْتُ أَسْمَعُ بِسَطْوَتِكَ سَمْعًا ، فَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ بَصَرُ الْعَيْنِ ، إِنَّمَا تَكَلَّمْتُ حِينَ تَكَلَّمْتُ لِتَعْذُرَنِي ، وَسَكَتُّ حِينَ سَكَتُّ لِتَرْحَمَنِي ، كَلِمَةٌ زَلَّتْ فَلَنْ أَعُودَ ، قَدْ وَضَعْتُ يَدِيَّ عَلَى فَمِي ، وَعَضَضْتُ عَلَى لِسَانِي ، وَأَلْصَقْتُ بِالتُّرَابِ خَدِّي ، وَدُسْتُ وَجْهِي لِصَغَارِي ، وَسَكَتُّ كَمَا أَسْكَتَتْنِي خَطِيئَتِي ، فَاغْفِرْ لِي مَا قُلْتُ فَلَنْ أَعُودَ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مِنِّي .
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا
أَيُّوبُ نَفَذَ فِيكَ عِلْمِي ، وَبِحِلْمِي صَرَفْتُ عَنْكَ غَضَبِي ، إِذْ خَطِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الْمَاءِ ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءَكَ ، وَقَرِّبْ عَنْ صَحَابَتِكَ قُرْبَانًا ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ .
حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : ثَنَا
سَلَمَةُ قَالَ : ثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْأُوَلِ ، أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِ
أَيُّوبَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنَ
الرُّومِ ، وَكَانَ اللَّهُ قَدِ اصْطَفَاهُ وَنَبَّأَهُ ، وَابْتَلَاهُ
[ ص: 496 ] فِي الْغِنَى بِكَثْرَةِ الْوَلَدِ وَالْمَالِ ، وَبَسَطَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا ، فَوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ ، وَكَانَتْ لَهُ الْبَشْنِيَةُ مِنْ أَرْضِ الشَّأْمِ ، أَعْلَاهَا وَأَسْفَلُهَا ، وَسَهْلُهَا وَجَبَلُهَا ، وَكَانَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ ، مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مَا لَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْعُدَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَعْطَاهُ أَهْلًا وَوَلَدًا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ ، وَكَانَ بَرًّا تَقِيًّا رَحِيمًا بِالْمَسَاكِينِ ، يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ وَيَحْمِلُ الْأَرَامِلَ ، وَيَكْفُلُ الْأَيْتَامَ ، وَيُكْرِمُ الضَّيْفَ ، وَيُبَلِّغُ ابْنَ السَّبِيلِ ، وَكَانَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، مُودِّيًا لِحَقِّ اللَّهِ فِي الْغِنَى ، قَدِ امْتَنَعَ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْهُ مَا أَصَابَ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى مِنَ الْعِزَّةِ وَالْغَفْلَةِ ، وَالسَّهْوِ وَالتَّشَاغُلِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا ، وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ ، وَعَرَفُوا فَضْلَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ سِوَاهُ ، مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَلْيَفَزُ ، وَرَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ بِلَادِهِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا : صُوفَرُ ، وَلِلْآخَرِ : بِلْدَدُ ، وَكَانُوا مِنْ بِلَادِهِ كُهُولًا وَكَانَ لِإِبْلِيسَ عَدُوِّ اللَّهَ مَنْزِلٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ يَقَعُ بِهِ كُلَّ سَنَةٍ مَوْقِعًا يَسْأَلُ فِيهِ ، فَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ فِيهِ ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ : أَوْ قِيلَ لَهُ عَنِ اللَّهِ : هَلْ قَدَرْتَ مِنْ أَيُّوبَ عَبْدِي عَلَى شَيْءٍ ؟ قَالَ : أَيْ رَبِّ وَكَيْفَ أَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ ؟ أَوْ إِنَّمَا ابْتَلَيْتَهُ بِالرَّخَاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالسَّعَةِ وَالْعَافِيَةِ ، وَأَعْطَيْتَهُ الْأَهْلَ وَالْمَالَ وَالْوَلَدَ وَالْغِنَى وَالْعَافِيَةَ فِي جَسَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ ، فَمَا لَهُ لَا يَشْكُرُكَ وَيَعْبُدُكَ وَيُطِيعُكَ وَقَدْ صَنَعْتَ ذَلِكَ بِهِ ، لَوِ ابْتَلَيْتَهُ بِنَزْعِ مَا أَعْطَيْتَهُ لَحَالَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شُكْرِكَ ، وَلَتَرَكَ عِبَادَتِكَ ، وَلَخَرَجَ مِنْ طَاعَتِكَ إِلَى غَيْرِهَا ، أَوْ كَمَا قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ ، فَقَالَ : قَدْ سَلَّطْتُّكَ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ ، وَكَانَ اللَّهُ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ ، وَلَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَيْهِ إِلَّا رَحْمَةً لِيُعْظِمَ لَهُ الثَّوَابَ بِالَّذِي يُصِيبُهُ مِنَ الْبَلَاءِ ، وَلِيَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِلصَّابِرِينَ ، وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ فِي كُلِّ بَلَاءٍ نَزَلَ بِهِمْ ، لِيَتَأَسُّوا بِهِ ، وَلِيَرْجُوا مِنْ عَاقِبَةِ الصَّبْرِ فِي عَرَضِ الدُّنْيَا ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَمَا صَنَعَ اللَّهُ بِأَيُّوبَ ، فَانْحَطَّ عَدُوُّ اللَّهِ سَرِيعًا ، فَجَمَعَ عَفَارِيتَ الْجِنِّ وَمَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ مِنْ جُنُودِهِ ، فَقَالَ : إِنِّي قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى أَهْلِ
أَيُّوبَ وَمَالِهِ ، فَمَاذَا عَلَيْكُمْ ؟ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : أَكُونُ إِعْصَارًا فِيهِ نَارٌ ، فَلَا أَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إِلَّا أَهْلَكْتُهُ ، قَالَ : أَنْتَ وَذَاكَ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى إِبِلَهُ ، فَأَحْرَقَهَا وَرُعَاتَهَا جَمِيعًا ، ثُمَّ جَاءَ عَدُوُّ اللَّهِ أَيُّوبَ فِي صُورَةِ قَيِّمِهِ عَلَيْهَا هُوَ فِي مُصَلَّى فَقَالَ : يَا أَيُّوبُ أَقْبَلَتْ نَارٌ حَتَّى غَشِيَتْ إِبِلَكَ فَأَحْرَقَتْهَا وَمَنْ فِيهَا غَيْرِي ، فَجِئْتُكَ أُخْبِرُكَ
[ ص: 497 ] بِذَلِكَ ، فَعَرَفَهُ أَيُّوبُ ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْطَاهَا ، وَهُوَ أَخَذَهَا الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْهَا كَمَا يَخْرُجُ الزُّوَانَ مِنَ الْحَبِّ النَّقِيِّ ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ ، فَجَعَلَ يُصِيبُ مَالَهُ مَالًا مَالًا حَتَّى مَرَّ عَلَى آخِرِهِ ، كُلَّمَا انْتَهَى إِلَيْهِ هَلَاكُ مَالٍ مِنْ مَالِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ وَرَضِيَ بِالْقَضَاءِ ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ أَتَى أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ ، وَهُمْ فِي قَصْرٍ لَهُمْ مَعَهُمْ حُظَيَّاتُهُمْ ، وَخُدَّامُهُمْ ، فَتَمَثَّلَ رِيحًا عَاصِفًا ، فَاحْتَمَلَ الْقَصْرَ مِنْ نَوَاحِيهِ ، فَأَلْقَاهُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ ، فَشَدَخَهُمْ تَحْتَهُ ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي صُورَةِ قَهْرِمَانَهُ عَلَيْهِمْ ، قَدْ شَدَخَ وَجْهَهُ ، فَقَالَ : يَا أَيُّوبُ قَدْ أَتَتْ رِيحٌ عَاصِفٌ ، فَاحْتَمَلَتِ الْقَصْرَ مِنْ نَوَاحِيهِ ، ثُمَّ أَلْقَتْهُ عَلَى أَهْلِكَ وَوَلَدِكَ فَشَدَخَتْهُمْ غَيْرِي ، فَجِئْتُكَ أُخْبِرُكَ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَجْزَعْ عَلَى شَيْءٍ أَصَابَهُ جَزَعَهُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ ، وَأَخَذَ تُرَابًا فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ ، ثُمَّ قَالَ : لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي ، وَلَمْ أَكُ شَيْئًا ، وَسُرَّ بِهَا عَدُوُّ اللَّهِ مِنْهُ ، فَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ جَذِلًا وَرَاجَعَ أَيُّوبُ التَّوْبَةَ مِمَّا قَالَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، فَسَبَقَتْ تَوْبَتُهُ عَدُوَّ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ ، فَلَمَّا جَاءَ وَذَكَرَ مَا صَنَعَ ، قِيلَ لَهُ قَدْ سَبَقَتْكَ تَوْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَمُرَاجَعَتُهُ ، قَالَ : أَيْ رَبِّ فَسَلِّطْنِي عَلَى جَسَدِهِ ، قَالَ : قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ إِلَّا عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ عَدُوُّ اللَّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ، فَنَفَخَ فِي جَسَدِهِ نَفْخَةً أَشْعَلَ مَا بَيْنَ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ كَحَرِيقِ النَّارِ ، ثُمَّ خَرَجَ فِي جَسَدِهِ ثَآلِيلُ كَأَلْيَاتِ الْغَنَمِ ، فَحَكَّ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى ذَهَبَتْ ، ثُمَّ بِالْفَخَّارِ وَالْحِجَارَةِ حَتَّى تَسَاقَطَ لَحْمُهُ ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ وَالْعِظَامُ ، عَيْنَاهُ تَجُولَانِ فِي رَأْسِهِ لِلنَّظَرِ وَقَلْبِهِ لِلْعَقْلِ ، وَلَمْ يَخْلُصْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ حَشْوِ الْبَطْنِ ، لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلنَّفْسِ إِلَّا بِهَا ، فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ عَلَى الْتِوَاءٍ مِنْ حَشْوَتِهِ ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ .
فَحَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : ثَنَا
سَلَمَةُ عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ
ابْنِ دِينَارٍ عَنِ
الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَكَثَ
أَيُّوبُ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ مُلْقًى عَلَى رَمَادِ مِكْنَسَةٍ فِي جَانِبِ الْقَرْيَةِ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ تَقُومُ عَلَيْهِ وَتَكْسِبُ لَهُ ، وَلَا يَقْدِرُ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْهُ عَلَى قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ مِمَّا يُرِيدُ . فَلَمَّا طَالَ الْبَلَاءُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا ، وَسَئِمَهَا النَّاسُ ، وَكَانَتْ تَكْسِبُ عَلَيْهِ مَا تُطْعِمُهُ وَتَسْقِيهِ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : فَحُدِّثْتُ أَنَّهَا الْتَمَسَتْ لَهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ تُطْعِمُهُ ، فَمَا وَجَدَتْ شَيْئًا حَتَّى جَزَّتْ قَرْنًا مِنْ رَأْسِهَا فَبَاعَتْهُ بِرَغِيفٍ . فَأَتَتْهُ بِهِ
[ ص: 498 ] فَعَشَّتْهُ إِيَّاهُ ، فَلَبِثَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ تِلْكَ السِّنِينَ ، حَتَّى إِنْ كَانَ الْمَارُّ لَيَمُرُّ فَيَقُولُ : لَوْ كَانَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَأَرَاحَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ .
حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : ثَنَا
سَلَمَةُ قَالَ : فَحَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ : وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَقُولُ : لَبِثَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَزِدْ يَوْمًا وَاحِدًا ، فَلَمَّا غَلَبَهُ
أَيُّوبُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُ شَيْئًا ، اعْتَرَضَ لِامْرَأَتِهِ فِي هَيْئَةٍ لَيْسَتْ كَهَيْئَةِ بَنِي آدَمَ فِي الْعَظْمِ وَالْجِسْمِ وَالطُّولِ عَلَى مَرْكَبٍ لَيْسَ مِنْ مَرَاكِبِ النَّاسِ ، لَهُ عِظَمٌ وَبَهَاءٌ وَجَمَالٌ لَيْسَ لَهَا ، فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ صَاحِبَةُ أَيُّوبَ هَذَا الرَّجُلِ الْمُبْتَلَى ؟ قَالَتْ نَعَمْ ، قَالَ : هَلْ تَعْرِفِينَنِي ؟ قَالَتْ لَا قَالَ : فَأَنَا إِلَهُ الْأَرْضِ ، وَأَنَا الَّذِي صَنَعْتُ بِصَاحِبِكِ مَا صَنَعْتُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَبَدَ إِلَهَ السَّمَاءِ وَتَرَكَنِي فَأَغْضَبَنِي ، وَلَوْ سَجَدَ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً رَدَدْتُ عَلَيْهِ وَعَلَيْكِ كُلَّ مَا كَانَ لَكُمَا مِنْ مَالً وَوَلَدً ، فَإِنَّهُ عِنْدِي ، ثُمَّ أَرَاهَا إِيَّاهُمْ فِيمَا تَرَى بِبَطْنِ الْوَادِي الَّذِي لَقِيَهَا فِيهِ ، قَالَ : وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ : لَوْ أَنَّ صَاحِبَكِ أَكَلَ طَعَامًا وَلَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ لَعُوفِيَ مِمَّا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَأَرَادَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْ قِبَلِهَا ، فَرَجَعَتْ إِلَى
أَيُّوبَ ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ لَهَا وَمَا أَرَاهَا ، قَالَ : أَوَقَدْ آتَاكِ عَدُوُّ اللَّهِ لِيَفْتِنَكِ عَنْ دِينِكِ ؟ ثُمَّ أَقْسَمَ إِنِ اللَّهُ عَافَاهُ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ ضَرْبَةٍ ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ ، جَاءَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ مَعَهُمْ فَتًى حَدِيثُ السِّنِّ ، قَدْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ ، فَجَلَسُوا إِلَى أَيُّوبَ وَنَظَرُوا إِلَى مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ ، فَأَعْظَمُوا ذَلِكَ وَفَظِعُوا بِهِ ، وَبَلَغَ مِنْ
أَيُّوبَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجْهُودُهُ ، وَذَلِكَ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُفَرِّجَ عَنْهُ مَا بِهِ ، فَلَمَّا رَأَى
أَيُّوبُ مَا أَعْظَمُوا مِمَّا أَصَابَهُ ، قَالَ : أَيْ رَبِّ لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي وَلَوْ كُنْتَ إِذْ قَضَيْتَ عَلَيَّ الْبَلَاءَ تَرَكْتَنِي فَلَمْ تَخْلُقْنِي لَيْتَنِي كُنْتُ دَمًا أَلْقَتْنِي أُمِّي ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=13361ابْنِ عَسْكَرٍ عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ إِلَى : وَكَابَدُوا اللَّيْلَ ، وَاعْتَزَلُوا الْفِرَاشَ ، وَانْتَظَرُوا الْأَسْحَارَ ، ثُمَّ زَادَ فِيهِ : أُولَئِكَ الْآمِنُونَ الَّذِي لَا يَخَافُونَ ، وَلَا يَهْتَمُّونَ وَلَا يَحْزَنُونَ ، فَأَيْنَ عَاقِبَةُ أَمْرِكَ يَا
أَيُّوبُ مِنْ عَوَاقِبِهِمْ ؟
قَالَ فَتًى حَضَرَهُمْ وَسَمِعَ قَوْلَهُمْ ، وَلَمْ يَفْطِنُوا لَهُ وَلَمْ يَأْبَهُوا لِمَجْلِسِهِ ، وَإِنَّمَا قَيَّضَهُ اللَّهُ لَهُمْ لِمَا كَانَ مِنْ جَوْرِهِمْ فِي الْمَنْطِقِ وَشَطَطِهِمْ ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُصَغِّرَ بِهِ
[ ص: 499 ] إِلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَنْ يُسَفِّهَ بِصِغَرِهِ لَهُمْ أَحْلَامَهُمْ ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ تَمَادَى فِي الْكَلَامِ ، فَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا حِكَمًا ، وَكَانَ الْقَوْمُ مِنْ شَأْنِهِمُ الِاسْتِمَاعُ وَالْخُشُوعُ إِذَا وُعِظُوا أَوْ ذُكِّرُوا ، فَقَالَ : إِنَّكُمْ تَكَلَّمْتُمْ قَبْلِي أَيُّهَا الْكُهُولُ ، وَكُنْتُمْ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ وَأَوْلَى بِهِ مِنِّي لِحَقِّ أَسْنَانِكُمْ ، وَلِأَنَّكُمْ جَرَّبْتُمْ قَبْلِي وَرَأَيْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مَا لَمْ أَعْلَمْ ، وَعَرَفْتُمْ مَا لَمْ أَعْرِفْ ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ تَرَكْتُمْ مِنَ الْقَوْلِ أَحْسَنَ مِنَ الَّذِي قُلْتُمْ ، وَمِنَ الرَّأْيِ أَصْوَبَ مِنَ الَّذِي رَأَيْتُمْ ، وَمِنَ الْأَمْرِ أَجْمَلَ مِنَ الَّذِي أَتَيْتُمْ ، وَمِنَ الْمَوْعِظَةِ أَحْكَمَ مِنَ الَّذِي وَصَفْتُمْ ، وَقَدْ كَانَ
لِأَيُّوبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالذِّمَامِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي وَصَفْتُمْ ، هَلْ تَدْرُونَ أَيُّهَا الْكُهُولُ حَقَّ مَنِ انْتَقَصْتُمْ ، وَحُرْمَةَ مَنِ انْتَهَكْتُمْ ، وَمَنِ الرَّجُلِ الَّذِي عِبْتُمْ وَاتَّهَمْتُمْ ، وَلَمْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا الْكُهُولُ أَنَّ
أَيُّوبَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخِيرَتُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ ، يَوْمُكُمْ هَذَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِوَحْيِهِ ، وَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ وَائْتَمَنَهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ ، ثُمَّ لَمْ تَعْلَمُوا وَلَمْ يُطْلِعْكُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ سَخِطَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ مُذْ أَتَاهُ مَا آتَاهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ نَزَعَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمَهُ بِهَا مُذْ آتَاهُ مَا آتَاهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا ، وَلَا أَنَّ
أَيُّوبَ غَيَّرَ الْحَقَّ فِي طُولِ مَا صَحِبْتُمُوهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَاءُ هُوَ الَّذِي أَزْرَى بِهِ عِنْدَكُمْ ، وَوَضَعَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ ، فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ ، ثُمَّ لَيْسَ بَلَاؤُهُ لِأُولَئِكَ بِدَلِيلِ سُخْطِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا لِهَوَانِهِ لَهُمْ وَلَكِنَّهَا كَرَامَةٌ وَخِيرَةٌ لَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ
أَيُّوبُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَلَا فِي النُّبُوَّةِ وَلَا فِي الْأَثَرَةِ وَلَا فِي الْفَضِيلَةِ وَلَا فِي الْكَرَامَةِ ، إِلَّا أَنَّهُ أَخٌ أَحْبَبْتُمُوهُ عَلَى وَجْهِ الصَّحَابَةِ ، لَكَانَ لَا يَجْمُلُ بِالْحَكِيمِ أَنْ يَعْذُلَ أَخَاهُ عِنْدَ الْبَلَاءِ ، وَلَا يُعَيِّرَهُ بِالْمُصِيبَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَهُوَ مَكْرُوبٌ حَزِينٌ ، وَلَكِنْ يَرْحَمُهُ وَيَبْكِي مَعَهُ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ ، وَيَحْزَنُ لِحُزْنِهِ ، وَيَدُلُّهُ عَلَى مَرَاشِدِ أَمْرِهِ ، وَلَيْسَ بِحَكِيمٍ وَلَا رَشِيدٍ مَنْ جَهِلَ هَذَا ، فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا الْكُهُولُ فِي أَنْفُسِكُمْ .
قَالَ : ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
أَيُّوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَقَدْ كَانَ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ مَا يَقْطَعُ لِسَانَكَ ، وَيَكْسِرُ قَلْبَكَ ، وَيُنْسِيكَ حُجَجَكَ ، أَلَمْ تَعْلَمْ يَا
أَيُّوبُ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَتُهُ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ وَلَا بَكَمٍ ؟ وَإِنَّهُمْ لَهُمُ الْفُصَحَاءُ النُّطَقَاءُ النُّبَلَاءُ الْأَلِبَّاءُ الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللَّهِ انْقَطَعَتْ أَلْسِنَتُهُمْ ، وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ ، وَانْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ إِعْظَامًا لِلَّهِ ، وَإِعْزَازًا وَإِجْلَالًا فَإِذَا اسْتَفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ اسْتَبَقُوا إِلَى اللَّهِ
[ ص: 500 ] بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ ، يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ الظَّالِمِينَ وَالْخَاطِئِينَ ، وَإِنَّهُمْ لَأَنْزَاهٌ بُرَآءُ ، وَمَعَ الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُفَرِّطِينَ ، وَإِنَّهُمْ لَأَكْيَاسٌ أَقْوِيَاءُ ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَكْثِرُونَ لِلَّهِ الْكَثِيرَ ، وَلَا يَرْضَوْنَ لِلَّهِ بِالْقَلِيلِ ، وَلَا يُدِلُّونَ عَلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ فَهُمْ مُرَوِّعُونَ مُفْزِعُونَ مُغْتَمُّونَ خَاشِعُونَ وَجِلُونَ مُسْتَكِينُونَ مُعْتَرِفُونَ ، مَتَى مَا رَأَيْتَهُمْ يَا أَيُّوبُ .
قَالَ
أَيُّوبُ : إِنِ اللَّهَ يَزْرَعُ الْحِكْمَةَ بِالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، فَمَتَى نَبَتَتْ فِي الْقَلْبِ يُظْهِرُهَا اللَّهُ عَلَى اللِّسَانِ ، وَلَيْسَتْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ مِنْ قِبَلِ السَّنِّ ، وَلَا الشَّبِيبَةِ وَلَا طُولِ التَّجْرِبَةِ ، وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ الْعَبْدَ حَكِيمًا فِي الصِّيَامِ لَمْ يُسْقِطْ مَنْزِلَهُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ ، وَهُمْ يَرَوْنَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ نُورَ الْكَرَامَةِ ، وَلَكِنَّكُمْ قَدْ أَعْجَبَتْكُمْ أَنْفُسُكُمْ ، وَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ عُوفِيتُمْ بِإِحْسَانِكُمْ ، فَهُنَالِكَ بَغَيْتُمْ وَتَعَزَّزْتُمْ ، وَلَوْ نَظَرْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ ، ثُمَّ صَدَّقْتُمْ أَنْفُسَكُمْ لَوَجَدْتُمْ لَكُمْ عُيُوبًا سَتَرَهَا اللَّهُ بِالْعَافِيَةِ الَّتِي أَلْبَسَكُمْ ، وَلَكِنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ الْيَوْمَ وَلَيْسَ لِي رَأْيٌ وَلَا كَلَامٌ مَعَكُمْ ، قَدْ كُنْتُ فِيمَا خَلَا مَسْمُوعًا كَلَامِي ، مَعْرُوفًا حَقِّي ، مُنْتَصِفًا مِنْ خَصْمِي ، قَاهِرًا لِمَنْ هُوَ الْيَوْمَ يَقْهَرُنِي ، مَهِيبًا مَكَانِي ، وَالرِّجَالُ مَعَ ذَلِكَ يُنْصِتُونَ لِي وَيُوَقِّرُونِي ، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ قَدِ انْقَطَعَ رَجَائِي ، وَرُفِعَ حَذَرِي ، وَمَلَّنِي أَهْلِي ، وَعَقَّنِي أَرْحَامِي ، وَتَنَكَّرَتْ لِي مَعَارِفِي ، وَرَغِبَ عَنِّي صَدِيقِي ، وَقَطَعَنِي أَصْحَابِي ، وَكَفَرَنِي أَهْلُ بَيْتِي ، وَجُحِدْتُ حُقُوقِي ، وَنُسِيَتْ صَنَائِعِي ، أَصْرُخُ فَلَا يُصْرِخُونَنِي ، وَأَعْتَذِرُ فَلَا يَعْذُرُونَنِي ، وَإِنَّ قَضَاءَهُ هُوَ الَّذِي أَذَلَّنِي ، وَأَقْمَأَنِي وَأَخْسَأَنِي ، وَأَنَّ سُلْطَانَهُ ، هُوَ الَّذِي أَسْقَمَنِي وَأَنْحَلَ جِسْمِي ، وَلَوْ أَنَّ رَبِّي نَزَعَ الْهَيْبَةَ الَّتِي فِي صَدْرِي ، وَأَطْلَقَ لِسَانِي حَتَّى أَتَكَلَّمَ بِمِلْءِ فَمِي ، ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ يُحَاجُّ عَنْ نَفْسِهِ ، لَرَجَوْتُ أَنْ يُعَافِيَنِي عِنْدَ ذَلِكَ مِمَّا بِي ، وَلَكِنَّهُ أَلْقَانِي وَتَعَالَى عَنِّي ، فَهُوَ يَرَانِي ، وَلَا أَرَاهُ ، وَيَسْمَعُنِي وَلَا أَسْمَعُهُ لَا نَظَرَ إِلَيَّ فَرَحِمَنِي ، وَلَا دَنَا مِنِّي وَلَا أَدْنَانِي ، فَأُدْلِي بِعُذْرِي ، وَأَتَكَلَّمُ بِبَرَاءَتِي وَأُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِي .
لَمَّا قَالَ ذَلِكَ
أَيُّوبُ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ ، أَظَلَّهُ غَمَامٌ حَتَّى ظَنَّ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ عَذَابٌ ، ثُمَّ نُودِيَ مِنْهُ ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ : يَا
أَيُّوبُ ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : هَا أَنَا ذَا قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ ، وَلَمْ أَزَلْ مِنْكَ قَرِيبًا ، فَقُمْ فَأَدْلِ بِعُذْرِكَ الَّذِي زَعَمْتَ ، وَتَكَلَّمْ بِبَرَاءَتِكَ ، وَخَاصِمْ عَنْ نَفْسِكَ ، وَاشْدُدْ إِزَارَكَ ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=13361ابْنِ عَسْكَرٍ عَنْ
إِسْمَاعِيلَ إِلَى آخِرِهِ ، وَزَادَ فِيهِ : وَرَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ، فَارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا
[ ص: 501 ] مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فِيهِ شِفَاؤُكَ ، وَقَدْ وَهَبْتُ لَكَ أَهْلَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ، وَمَالَكَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ وَزَعَمُوا : وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ، وَلِتَكُونَ عِبْرَةً لِأَهْلِ الْبَلَاءِ ، وَعَزَاءً لِلصَّابِرِينَ ، فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ ، فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنٌ ، فَدَخَلَ فِيهَا فَاغْتَسَلَ ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَلْتَمِسُهُ فِي مَضْجَعِهِ ، فَلَمْ تَجِدْهُ ، فَقَامَتْ كَالْوَالِهَةِ مُتَلَدِّدَةً ، ثُمَّ قَالَتْ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، هَلْ لَكَ عَلِمٌ بِالرَّجُلِ الْمُبْتَلِي الَّذِي كَانَ هَاهُنَا ؟ قَالَ : لَا ثُمَّ تَبَسَّمَ ، فَعَرَفَتْهُ بِمَضْحِكِهِ ، فَاعْتَنَقَتْهُ .
حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : ثَنَا
سَلَمَةُ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ : فَحَدَّثْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ حَدِيثَهُ ، وَاعْتِنَاقَهَا إِيَّاهُ ، فَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ : فَوَالَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ مَا فَارَقَتْهُ مِنْ عِنَاقِهِ حَتَّى مَرَّ بِهَا كُلُّ مَالٍ لَهُمَا وَوَلَدٌ .
حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : ثَنَا
سَلَمَةُ عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ مَنْ يَذْكُرُ الْحَدِيثَ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَاهَا حِينَ سَأَلَتْ عَنْهُ ، فَقَالَ لَهَا : وَهَلْ تَعْرِفِينَهُ إِذَا رَأَيْتِهِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، وَمَالِي لَا أَعْرِفُهُ ؟ فَتَبَسَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : هَا أَنَا هُوَ ، وَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي مَا كُنْتُ فِيهِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اعْتَنَقَتْهُ ، قَالَ
وَهْبٌ : فَأَوْحَى اللَّهُ فِي قَسَمِهِ لِيَضْرِبُهَا فِي الَّذِي كَلَّمَتْهُ أَنْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ ) أَيْ قَدْ بَرَّتْ يَمِينُكَ ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يَقُولُ اللَّهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=43وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) .
حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِي قَالَ : ثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=14919فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ
هِشَامٍ عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ : لَقَدْ مَكَثَ
أَيُّوبُ مَطْرُوحًا عَلَى كُنَاسَةٍ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا مَا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ مَا بِهِ ، قَالَ : وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ خَلْقٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ
أَيُّوبَ ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : لَوْ كَانَ لِرَبِّ هَذَا فِيهِ حَاجَةٌ مَا صَنَعَ بِهِ هَذَا ، فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا .
حَدَّثَنِي
يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : ثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ
يُونُسَ عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ : بَقِيَ
أَيُّوبُ عَلَى كُنَاسَةٍ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الدَّوَابُّ .
حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ : ثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=17336يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَ : ثَنَا
ابْنُ عُيَيْنَةَ [ ص: 502 ] عَنْ
عَمْرٍو عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ : لَمْ يَكُنْ
بِأَيُّوبَ أَكَلَةٌ ، إِنَّمَا كَانَ يَخْرُجُ بِهِ مِثْلُ ثَدْيِ النِّسَاءِ ثُمَّ يُنْقِفُهُ .
حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ : ثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ : ثَنَا
مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ
هِشَامٍ عَنِ
الْحَسَنِ وَحَجَّاجٍ عَنْ
مُبَارَكٍ عَنِ
الْحَسَنِ : زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ قَالَ : إِنَّ
أَيُّوبَ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَأَوْسَعَ عَلَيْهِ ، وَلَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ ، وَإِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ قِيلَ لَهُ : هَلْ تَقْدِرُ أَنْ تَفْتِنَ
أَيُّوبَ ؟ قَالَ : رَبِّ إِنَّ
أَيُّوبَ أَصْبَحَ فِي دُنْيَا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ لَا يَشْكُرَكَ ، وَلَكِنْ سَلِّطْنِي عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ ، فَسَتَرَى كَيْفَ يُطِيعُنِي وَيَعْصِيكَ ! قَالَ : فَسَلَّطَهُ عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ ، قَالَ : فَكَانَ يَأْتِي بِالْمَاشِيَةِ مِنْ مَالِهِ مِنَ الْغَنَمِ فَيَحْرُقُهَا بِالنِّيرَانِ ، ثُمَّ يَأْتِي
أَيُّوبَ وَهُوَ يُصَلِّي مُتَشَبِّهًا بِرَاعِي الْغَنَمِ ، فَيَقُولُ : يَا
أَيُّوبُ تُصَلِّي لِرَبِّكَ ، مَا تَرَكَ اللَّهُ لَكَ مِنْ مَاشِيَتِكَ شَيْئًا مِنَ الْغَنَمِ إِلَّا أَحْرَقَهَا بِالنِّيرَانِ ، وَكُنْتُ نَاحِيَةً فَجِئْتُ لِأُخْبِرُكَ ، قَالَ : فَيَقُولُ
أَيُّوبُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْطَيْتَ ، وَأَنْتَ أَخَذْتَ ، مَهْمَا تُبْقِي نَفْسِي أَحْمَدُكَ عَلَى حُسْنِ بَلَائِكَ ، فَلَا يَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُ ، ثُمَّ يَأْتِي مَاشِيَتَهُ مِنَ الْبَقَرِ فَيَحْرُقُهَا بِالنِّيرَانِ ، ثُمَّ يَأْتِي
أَيُّوبَ فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ
أَيُّوبُ مِثْلَ ذَلِكَ ، قَالَ : وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِالْإِبِلِ حَتَّى مَا تَرَكَ لَهُ مِنْ مَاشِيَةٍ حَتَّى هَدَمَ الْبَيْتَ عَلَى وَلَدِهِ ، فَقَالَ : يَا
أَيُّوبُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى وَلَدِكَ مَنْ هَدَمَ عَلَيْهِمُ الْبُيُوتَ ، حَتَّى هَلَكُوا ، فَيَقُولُ
أَيُّوبُ مِثْلَ ذَلِكَ ، قَالَ : رَبِّ هَذَا حِينَ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ الْإِحْسَانَ كُلَّهُ ، قَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ يَشْغَلُنِي حُبُّ الْمَالِ بِالنَّهَارِ ، وَيَشْغَلُنِي حُبُّ الْوَلَدِ بِاللَّيْلِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ ، فَالْآنَ أُفْرِغُ سَمْعِي وَبَصَرِي وَلَيْلِي وَنَهَارِي بِالذِّكْرِ وَالْحَمْدِ ، وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّهْلِيلِ ، فَيَنْصَرِفُ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْ عِنْدِهِ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُ .
قَالَ : ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : كَيْفَ رَأَيْتَ
أَيُّوبَ ؟ قَالَ إِبْلِيسُ :
أَيُّوبُ قَدْ عَلِمَ أَنَّكَ سَتَرُدُّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَلَكِنْ سَلِّطْنِي عَلَى جَسَدِهِ ، فَإِنْ أَصَابَهُ الضُّرُّ فِيهِ أَطَاعَنِي وَعَصَاكَ ، قَالَ : فَسُلِّطَ عَلَى جَسَدِهِ ، فَأَتَاهُ فَنَفَخَ فِيهِ نَفْخَةً قُرِّحَ مِنْ لَدُنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ ، قَالَ : فَأَصَابَهُ الْبَلَاءُ بَعْدَ الْبَلَاءِ ، حَتَّى حُمِلَ فَوِضِعَ عَلَى مِزْبَلَةِ كُنَاسَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَلَا وَلَدٌ وَلَا صَدِيقٌ ، وَلَا أَحَدٌ يَقْرَبُهُ غَيْرَ زَوْجَتِهِ ، صَبَرَتْ مَعَهُ بِصِدْقٍ ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِ بِطَعَامٍ ، وَتَحْمَدُ اللَّهَ مَعَهُ إِذَا حَمِدَ ،
وَأَيُّوبُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَفْتُرُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَالتَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى
[ ص: 503 ] مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ ، قَالَ
الْحَسَنُ : فَصَرَخَ إِبْلِيسُ عَدُوُّ اللَّهِ صَرْخَةً جَمَعَ فِيهَا جُنُودَهُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ جَزَعًا مِنْ صَبْرِ
أَيُّوبَ ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ : جَمَعْتَنَا ، مَا خَبَرُكَ ؟ مَا أَعْيَاكَ ؟ قَالَ : أَعْيَانِي هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُسَلِّطَنِي عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ فَلَمْ أَدَعْ لَهُ مَالًا وَلَا وَلَدًا ، فَلَمْ يَزْدَدْ بِذَلِكَ إِلَّا صَبْرًا وَثَنَاءً عَلَى اللَّهِ وَتَحْمِيدًا لَهُ ، ثُمَّ سُلِّطْتُ عَلَى جَسَدِهِ فَتَرَكْتُهُ قُرْحَةً مُلْقَاةً عَلَى كُنَاسَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، لَا يَقْرَبُهُ إِلَّا امْرَأَتُهُ ، فَقَدِ افْتَضَحَتْ بِرَبِّي ، فَاسْتَعَنْتُ بِكُمْ ، فَأَعِينُونِي عَلَيْهِ ، قَالَ : فَقَالُوا لَهُ : أَيْنَ مَكْرُكَ ؟ أَيْنَ عِلْمُكَ الَّذِي أَهْلَكْتَ بِهِ مَنْ مَضَى ، قَالَ : بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي
أَيُّوبَ ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ ، قَالُوا : نُشِيرُ عَلَيْكَ ، أَرَأَيْتَ آدَمَ حِينَ أَخْرَجْتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَهُ ؟ قَالَ : مِنْ قِبَلِ امْرَأَتِهِ ، قَالُوا : فَشَأْنُكَ
بِأَيُّوبَ مِنْ قِبَلِ امْرَأَتِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْصِيَهَا ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْرَبُهُ غَيْرُهَا ، قَالَ : أَصَبْتُمْ ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ تَصَدَّقُ ، فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ رَجُلٍ ، فَقَالَ : أَيْنَ بَعْلُكِ يَا أَمَةَ اللَّهِ ؟ قَالَتْ : هُوَ ذَاكَ يَحُكُّ قُرُوحَهُ ، وَيَتَرَدَّدَ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ ، فَلَمَّا سَمِعَهَا طَمِعَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ جَزَعٍ ، فَوَقَعَ فِي صَدْرِهَا ، فَوَسْوَسَ إِلَيْهَا ، فَذَكَّرَهَا مَا كَانَتْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَالْمَالِ وَالدَّوَابِّ ، وَذَكَّرَهَا جَمَالَ
أَيُّوبَ وَشَبَابَهُ ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ أَبَدًا ، قَالَ
الْحَسَنُ : فَصَرَخَتْ ، فَلَمَّا صَرَخَتْ عَلِمَ أَنَّ قَدْ صَرَخَتْ وَجَزِعَتْ ، أَتَاهَا بِسَخْلَةٍ ، فَقَالَ : لِيَذْبَحْ هَذَا إِلَيَّ
أَيُّوبُ وَيَبْرَأْ ، قَالَ : فَجَاءَتْ تَصْرُخُ يَا
أَيُّوبُ ، يَا
أَيُّوبُ ، حَتَّى مَتَى يُعَذِّبُكَ رَبُّكَ ، أَلَا يَرْحَمُكَ ؟ أَيْنَ الْمَاشِيَةُ ؟ أَيْنَ الْمَالُ ، أَيْنَ الْوَلَدُ ؟ أَيْنَ الصَّدِيقُ ، أَيْنَ لَوْنُكَ الْحَسَنُ ؟ قَدْ تَغَيَّرَ ، وَصَارَ مِثْلَ الرَّمَادِ ؟ أَيْنَ جِسْمُكَ الْحَسَنُ الَّذِي قَدْ بَلِيَ وَتَرَدَّدَ فِيهِ الدَّوَابُّ ؟ اذْبَحْ هَذِهِ السَّخْلَةَ وَاسْتَرِحْ ، قَالَ
أَيُّوبُ : أَتَاكِ عَدُوُّ اللَّهِ ، فَنَفَخَ فِيكِ ، فَوَجَدَ فِيكِ رِفْقًا ، وَأَجَبْتِهِ ! وَيْلَكِ أَرَأَيْتِ مَا تَبْكِينَ عَلَيْهِ مِمَّا تَذْكُرِينَ مَا كُنَّا فِيهِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالصِّحَّةِ وَالشَّبَابِ ؟ مَنْ أَعْطَانِيهِ ؟ قَالَتْ : اللَّهُ ، قَالَ : فَكَمْ مَتَّعَنَا بِهِ ؟ قَالَتْ : ثَمَانِينَ سَنَةٍ ، قَالَ : فَمُذْ كَمُ ابْتَلَانَا اللَّهُ بِهَذَا الْبَلَاءِ الَّذِي ابْتَلَانَا بِهِ ؟ قَالَتْ : مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ وَأَشْهَرٍ ، قَالَ : وَيْلَكِ ! وَاللَّهِ مَا عَدَلْتِ ، وَلَا أَنْصَفْتِ رَبَّكِ ، أَلَا صَبَرْتِ حَتَّى نَكُونَ فِي هَذَا الْبَلَاءِ الَّذِي ابْتَلَانَا رَبُّنَا بِهِ ثَمَانِينَ سَنَةً كَمَا كُنَّا فِي الرَّخَاءِ ثَمَانِينَ سَنَةً ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَجْلِدَنَّكِ مِائَةَ
[ ص: 504 ] جِلْدَةٍ ، هِيهْ أَمَرْتِينِي أَنْ أَذْبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، طَعَامُكِ وَشَرَابُكِ الَّذِي تَأْتِينِي بِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، وَأَنْ أَذُوقَ مَا تَأْتِينِي بِهِ بَعْدُ ، إِذْ قُلْتِ لِي هَذَا فَاغْرُبِي عَنِّي فَلَا أَرَاكِ ، فَطَرَدَهَا ، فَذَهَبَتْ ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ : هَذَا قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ ثَمَانِينَ سَنَةً عَلَى هَذَا الْبَلَاءِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، فَبَاءَ بِالْغَلَبَةِ وَرَفَضَهُ ، وَنَظَرَ
أَيُّوبُ إِلَى امْرَأَتِهِ وَقَدْ طَرَدَهَا ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا صَدِيقٌ . قَالَ
الْحَسَنُ : وَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ، وَلَا وَاللَّهِ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ
أَيُّوبَ ، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ لِصَاحِبِهِ : لَوْ كَانَ لِلَّهِ فِي هَذَا حَاجَةٌ ، مَا بَلَغَ بِهِ هَذَا ، فَلَمْ يَسْمَعْ
أَيُّوبُ شَيْئًا كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ .
حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ : ثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ : ثَنِي
حَجَّاجٌ عَنْ
جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : كَانَ
لِأَيُّوبَ أَخَوَانِ ، فَأَتَيَاهُ ، فَقَامَا مِنْ بَعِيدٍ لَا يَقْدِرَانِ أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ رِيحِهِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : لَوْ كَانَ اللَّهُ عَلِمَ فِي
أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِمَا أَرَى ، قَالَ : فَمَا جَزِعَ
أَيُّوبُ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَهُ جَزَعُهُ مِنْ كَلِمَةِ الرَّجُلِ ، فَقَالَ
أَيُّوبُ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً شَبْعَانَ قَطُّ وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي ، فَصُدِّقَ وَهُمَا يَسْمَعَانِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَتَّخِذْ قَمِيصَيْنِ قَطُّ وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ فَصَدِّقْنِي فَصُدِّقَ وَهُمَا يَسْمَعَانِ ، قَالَ : ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا .
حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ : ثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ : فَحَدَّثَنِي مَخْلَدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ عَنْ هِشَامٍ ، عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ : فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ) ثُمَّ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى رَبُّهُ فَقَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .
حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ : ثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ : ثَنِي
حَجَّاجٌ عَنْ
جَرِيرٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ .
حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ : ثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ : ثَنِي
حَجَّاجٌ عَنْ
مُبَارَكٍ عَنِ
الْحَسَنِ وَمَخْلَدٍ ، عَنْ
هِشَامٍ عَنِ
الْحَسَنٍ دَخَلَ حَدِيثُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ، قَالَا فَقِيلَ لَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=42ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ ، فَاغْتَسَلَ مِنْهَا ، فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ دَائِهِ شَيْءٌ ظَاهِرٌ إِلَّا سَقَطَ ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ
[ ص: 505 ] كُلَّ أَلَمٍ وَكُلَّ سَقَمٍ ، وَعَادَ إِلَيْهِ شَبَابُهُ وَجَمَالُهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ وَأَفْضَلَ مَا كَانَ ، ثُمَّ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَشَرِبَ مِنْهَا ، فَلَمْ يَبْقَ فِي جَوْفِهِ دَاءٌ إِلَّا خَرَجَ ، فَقَامَ صَحِيحًا ، وَكُسِيَ حُلَّةً ، قَالَ : فَجَعَلَ يَتَلَفَّتُ وَلَا يَرَى شَيْئًا مَا كَانَ لَهُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ إِلَّا وَقَدْ أَضْعَفَهُ اللَّهُ لَهُ ، حَتَّى وَاللَّهِ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي اغْتَسَلَ بِهِ ، تَطَايَرَ عَلَى صَدْرِهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ ، قَالَ : فَجَعَلَ يَضُمُّهُ بِيَدِهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : يَا
أَيُّوبُ أَلَمْ أُغْنِكَ ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنَّهَا بَرَكَتُكَ ، فَمَنْ يَشْبَعُ مِنْهَا ، قَالَ : فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى مَكَانٍ مُشْرِفٍ ، ثُمَّ إِنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ : أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ طَرَدَنِي إِلَى مَنْ أَكَلُهُ ؟ أَدَعُهُ يَمُوتُ جُوعًا أَوْ يَضِيعُ فَتَأْكُلُهُ السِّبَاعُ ؟ لَأَرْجِعَنَّ إِلَيْهِ فَرَجَعَتْ ، فَلَا كُنَاسَةَ تُرَى ، وَلَا مِنْ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ ، وَإِذَا الْأُمُورُ قَدْ تَغَيَّرَتْ ، فَجَعَلَتْ تَطُوفُ حَيْثُ كَانَتِ الْكُنَاسَةُ وَتَبْكِي ، وَذَلِكَ بِعَيْنِ
أَيُّوبَ ، قَالَتْ : وَهَابَتْ صَاحِبَ الْحُلَّةِ أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَسْأَلُ عَنْهُ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا
أَيُّوبُ فَدَعَاهَا ، فَقَالَ : مَا تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللَّهِ ؟ فَبَكَتْ وَقَالَتْ : أَرَدْتُ ذَلِكَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ مَنْبُوذًا عَلَى الْكُنَاسَةِ ، لَا أَدْرِي أَضَاعَ أَمْ مَا فَعَلَ ؟ قَالَ لَهَا أَيُّوبُ : مَا كَانَ مِنْكِ ؟ فَبَكَتْ وَقَالَتْ : بَعْلِي ، فَهَلْ رَأَيْتَهُ ؟ وَهِيَ تَبْكِي إِنَّهُ قَدْ كَانَ هَاهُنَا ؟ قَالَ : وَهَلْ تَعْرِفِينَهُ إِذَا رَأَيْتِيهِ ؟ قَالَتْ : وَهَلْ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ رَآهُ ؟ ثُمَّ جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَهِيَ تَهَابُهُ ، ثُمَّ قَالَتْ : أَمَا إِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَ خَلْقِ اللَّهِ بِكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا ، قَالَ : فَإِنِّي أَنَا
أَيُّوبُ الَّذِي أَمَرْتِينِي أَنْ أَذْبَحَ لِلشَّيْطَانِ ، وَإِنِّي أَطَعْتُ اللَّهَ وَعَصَيْتُ الشَّيْطَانَ ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ فَرَدَّ عَلَيَّ مَا تَرَيْنَ ، قَالَ
الْحَسَنُ : ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ رَحِمَهَا بِصَبْرِهَا مَعَهُ عَلَى الْبَلَاءِ أَنْ أَمَرَهُ تَخْفِيفًا عَنْهَا أَنْ يَأْخُذَ جَمَاعَةً مِنَ الشَّجَرِ فَيَضْرِبُهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً تَخْفِيفًا عَنْهَا بِصَبْرِهَا مَعَهُ .
حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ : ثَنِي أَبِي ، قَالَ : ثَنِي عَمِّي ، قَالَ : ثَنِي أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ) . . . إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا مَسَّهُ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ، أَنْسَاهُ اللَّهُ الدُّعَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ كَثِيرًا ، وَلَا يَزِيدُهُ الْبَلَاءُ فِي اللَّهِ إِلَّا رَغْبَةً وَحُسْنَ إِيمَانٍ ، فَلَمَّا انْتَهَى الْأَجَلُ ، وَقَضَى اللَّهُ أَنَّهُ كَاشِفٌ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ ، وَيَسَّرَهُ لَهُ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : لَا يَنْبَغِي لِعَبْدِي
أَيُّوبَ أَنْ يَدْعُوَنِي ، ثُمَّ لَا أَسْتَجِيبُ لَهُ ، فَلَمَّا دَعَا
[ ص: 506 ] اسْتَجَابَ لَهُ ، وَأَبْدَلَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ذَهَبَ لَهُ ضِعْفَيْنِ ، رَدَّ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَثَلَهُمْ مَعَهُمْ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْأَهْلِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهَ فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) أَهُمْ أَهْلُهُ الَّذِينَ أُوتِيهِمْ فِي الدُّنْيَا ، أَمْ ذَلِكَ وَعْدٌ وَعْدَهُ اللَّهُ أَيُّوبَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّمَا آتَى اللَّهُ
أَيُّوبَ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ أَهْلِهِ الَّذِينَ هَلَكُوا ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرَدُّوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ
أَيُّوبَ أَنْ يُؤْتِيَهُ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ .
حَدَّثَنِي
أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ قَالَ : ثَنَا
ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ
لَيْثٍ قَالَ : أَرْسَلَ
مُجَاهِدٌ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ
قَاسِمٌ إِلَى
عِكْرِمَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ
لِأَيُّوبَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) فَقَالَ : قِيلَ لَهُ : إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ ، فَإِنْ شِئْتَ عَجَّلْنَاهُمْ لَكَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ ، وَآتَيْنَاكَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، فَقَالَ : يَكُونُونَ لِي فِي الْآخِرَةِ ، وَأُوتَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، قَالَ : فَرَجَعَ إِلَى
مُجَاهِدٍ فَقَالَ : أَصَابَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ رَدَّهُمْ إِلَيْهِ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَعْطَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : ثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=15738حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ عَنْ
أَبِي سِنَانٍ عَنْ ثَابِتٍ ، عَنِ
الضَّحَّاكِ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قَالَ : أَهْلَهُ بِأَعْيَانِهِمْ .
حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ : ثَنِي أَبِي ، قَالَ : ثَنِي عَمِّي ، قَالَ : ثَنِي أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ : لَمَّا دَعَا
أَيُّوبُ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ، وَأَبْدَلَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ذَهَبَ لَهُ ضِعْفَيْنِ ، رَدَّ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ .
حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ : ثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ : ثَنِي
حَجَّاجٌ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=43وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قَالَ : أَحْيَاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ ، وَرَدَّ إِلَيْهِ مِثْلَهُمْ .
حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : ثَنَا
جَرِيرٌ ، عَنْ
لَيْثٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمَثَلَهُمْ مَعَهُمْ ) قَالَ : قِيلَ لَهُ : إِنْ شِئْتَ أَحْيَيْنَاهُمْ لَكَ ، وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ وَتُعْطَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونُوا فِي الْآخِرَةِ
[ ص: 507 ] وَمِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا .
حَدَّثَنَا
بِشْرٌ ، قَالَ : ثَنَا
يَزِيدُ ، قَالَ : ثَنَا
سَعِيدٌ ، عَنْ
قَتَادَةَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قَالَ
الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ : أَحْيَا اللَّهُ أَهْلَهُ بِأَعْيَانِهِمْ ، وَزَادَهُ إِلَيْهِمْ مِثْلَهُمْ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ آتَاهُ الْمِثْلَ مِنْ نَسْلِ مَالِهِ الَّذِي رَدَّهُ عَلَيْهِ وَأَهَّلَهُ ، فَأَمَّا الْأَهْلُ وَالْمَالُ فَإِنَّهُ رَدَّهُمَا عَلَيْهِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ : حَدَّثَنَا
ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : ثَنَا
ابْنُ ثَوْرٍ ، عَنْ
مَعْمَرٍ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنِ
الْحَسَنِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قَالَ : مِنْ نَسْلِهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( رَحْمَةً ) نُصِبَتْ بِمَعْنَى : فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَّا لَهُ .
وَقَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) يَقُولُ : وَتَذْكِرَةً لِلْعَابِدِينَ رَبَّهُمْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِ لِيَعْتَبِرُوا بِهِ ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَبْتَلِي أَوْلِيَاءَهُ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا بِضُرُوبٍ مِنَ الْبَلَاءِ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ ، مِنْ غَيْرِ هَوَانٍ بِهِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنِ اخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُ لِيَبْلُغَ بِصَبْرِهِ عَلَيْهِ وَاحْتِسَابِهِ إِيَّاهُ وَحُسْنِ يَقِينِهِ مَنْزِلَتَهُ الَّتِي أَعَدَّهَا لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ .
وَقَدْ : حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ ، قَالَ : ثَنَا
الْحُسَيْنُ ، قَالَ : ثَنِي
حَجَّاجٌ ، عَنْ
أَبِي مَعْشَرٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=14980مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) وَقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=43رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) قَالَ : أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَصَابَهُ بَلَاءٌ فَذَكَرَ مَا أَصَابَ
أَيُّوبَ فَلْيَقُلْ : قَدْ أَصَابَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنَّا نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ .