قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الناس احذروا عقاب ربكم بطاعته فأطيعوه ولا تعصوه ، فإن عقابه لمن عاقبه يوم القيامة شديد .
ثم وصف جل ثناؤه هول أشراط ذلك اليوم وبدوه ، فقال : ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) .
واختلف أهل العلم في وقت كون الزلزلة التي وصفها جل ثناؤه بالشدة ، فقال بعضهم : هي كائنة في الدنيا قبل يوم القيامة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى قال : ثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) قال : قبل الساعة .
حدثني سليمان بن عبد الجبار قال : ثنا محمد بن الصلت قال : ثنا أبو كدينة عن عطاء عن عامر ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثنا حجاج عن في قوله ( ابن جريج إن زلزلة الساعة ) فقال : زلزلتها : أشراطها . الآيات ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) . [ ص: 558 ] حدثنا ابن حميد : ثنا جرير عن عطاء عن عامر ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) قال : هذا في الدنيا من آيات الساعة .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر في إسناده نظر ، وذلك ما : حدثنا أبو كريب قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع المدني عن عن رجل من الأنصار ، عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما فرغ الله من خلق السماوات والأرض ، أبي هريرة فأعطاه خلق الصور إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخص ببصره إلى العرش ، ينتظر متى يؤمر . قال : يا رسول الله ، وما الصور ؟ قال : قرن . قال : وكيف هو ؟ قال : قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : الأولى : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين . يأمر الله عز وجل أبو هريرة إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله ، ويأمره الله فيديمها ويطولها ، فلا يفتر ، وهي التي يقول الله ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ) فيسير الله الجبال فتكون سرابا ، وترج الأرض بأهلها رجا ، وهي التي يقول الله ( يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة ) فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها ، أو كالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح فتميد الناس على ظهرها ، فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار ، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها ، فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله ( يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ) ، فبينما هم على ذلك ، إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر ، فرأوا أمرا عظيما ، وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ، ثم خسف شمسها وخسف قمرها وانتثرت [ ص: 559 ] نجومها ، ثم كشطت عنهم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك ، فقال : فمن استثنى الله حين يقول ( أبو هريرة ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) قال : أولئك الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ، وهو الذي يقول ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) . . . إلى قوله ( ولكن عذاب الله شديد ) " .
وهذا القول الذي ذكرناه عن علقمة ومن ذكرنا ذلك عنه قول لولا مجيء الصحاح من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعاني وحي الله وتنزيله . والشعبي
والصواب من القول في ذلك ما صح به الخبر عنه .
ذكر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا : حدثني قال : ثنا أحمد بن المقدام المعتمر بن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن قتادة عن صاحب له حدثه ، عن عمران بن حصين قال : يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) " . قال : فحثوا المطي ، حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هل تدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذلك يوم ينادى آدم ، يناديه ربه : ابعث بعث النار ، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، قال : فأبلس القوم ، فما وضح منهم ضاحك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا اعملوا وأبشروا ، فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه ، فمن هلك من بني آدم ، ومن هلك من بني إبليس ويأجوج ومأجوج . قال : أبشروا ، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير ، أو كالرقمة في جناح الدابة " . بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه وقد فاوت السير بأصحابه ، إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية (
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار يحيى بن سعيد قال : ثنا هشام بن أبي [ ص: 560 ] عبد الله عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم . وحدثنا ابن بشار قال : ثنا قال : ثنا أبي ، وحدثنا معاذ بن هشام ابن أبي عدي عن هشام جميعا ، عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا محمد بن بشر عن عن سعيد بن أبي عروبة قتادة عن العلاء بن زياد عن عمران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا عوف عن الحسن قال : " المدينة ، قرأ ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها ) . . . الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدرون أي يوم ذاكم ؟ قيل : الله ورسوله أعلم . فذكر نحوه ، إلا أنه زاد : وإنه لم يكن رسولان إلا كان بينهما فترة من الجاهلية ، فهم أهل النار وإنكم بين ظهراني خليقتين لا يعادهما أحد من أهل الأرض إلا كثروهم ، وهم يأجوج ومأجوج ، وهم أهل النار ، وتكمل العدة من المنافقين " . بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العسرة ، ومعه أصحابه ، بعدما شارف
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يأجوج ومأجوج . ثم قال : إني لأطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبرنا وحمدنا الله . ثم قال : " إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبرنا وحمدنا الله . ثم قال : إني لأطمع أن تكونوا نصف أهل الجنة ، إنما مثلكم في الناس كمثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود ، أو كمثل الشعرة السوداء في الثور الأبيض " . [ ص: 561 ] حدثنا يقال لآدم : أخرج بعث النار ، قال : فيقول : وما بعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين . فعند ذلك يشيب الصغير ، وتضع الحامل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد . قال : قلنا فأين الناجي يا رسول الله ؟ قال : أبشروا ، فإن واحدا منكم وألفا من أبو السائب قال : ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبي سعيد الخدري يقول الله لآدم يوم القيامة " ثم ذكر نحوه .
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال : ثنا يحيى بن عيسى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : " " . ثم ذكر نحوه . ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحشر ، قال : يقول الله يوم القيامة يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك والخير بيديك فيقول : ابعث بعثا إلى النار
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة عن أنس قال : " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) . . . حتى إلى ( عذاب الله شديد ) . . . الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير ، فرجع بها صوته ، حتى ثاب إليه أصحابه ، فقال : " أتدرون أي يوم هذا ؟ هذا يوم يقول الله لآدم : يا آدم قم فابعث بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ! " فكبر ذلك على المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سددوا وقاربوا وأبشروا ، فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير ، أو كالرقمة في ذراع الدابة ، وإن معكم لخليقتين ما كانتا في شيء قط إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج ، ومن هلك من كفرة الجن والإنس " . نزلت (
حدثنا ابن عبد الأعلى قال ابن ثور عن معمر عن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : دخلت على ابن مسعود بيت المال ، فقال : " . سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قلنا نعم ، قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قلنا : نعم قال : فوالذي نفسي بيده ، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، وسأخبركم عن ذلك ، إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وإن قلة المسلمين في الكفار يوم القيامة كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله [ ص: 562 ] ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) قال : هذا يوم القيامة .
والزلزلة مصدر من قول القائل : زلزلت بفلان الأرض أزلزلها زلزلة وزلزالا بكسر الزاي من الزلزال ، كما قال الله ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) وكذلك المصدر من كل سليم من الأفعال إذا جاءت على فعلان فبكسر أوله ، مثل وسوس وسوسة ووسواسا ، فإذا كان اسما كان بفتح أوله الزلزال والوسواس ، وهو ما وسوس إلى الإنسان ، كما قال الشاعر :
يعرف الجاهل المضلل أن الد هر فيه النكراء والزلزال
وقوله تعالى ( يوم ترونها ) يقول جل ثناؤه : يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة تذهل من عظمها كل مرضعة مولود عما أرضعت ، ويعني بقوله ، ( تذهل ) تنسى وتترك من شدة كربها ، يقال : ذهلت عن كذا أذهل عنه ذهولا وذهلت أيضا ، وهي قليلة ، والفصيح : الفتح في الهاء ، فأما في المستقبل فالهاء مفتوحة في اللغتين ، لم يسمع غير ذلك ، ومنه قول الشاعر :
صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل
[ ص: 563 ] فأما إذا أريد أن الهول أنساه وسلاه ، قلت : أذهله هذا الأمر عن كذا يذهله إذهالا . وفي إثبات الهاء في قوله ( كل مرضعة ) اختلاف بين أهل العربية وكان بعض نحويي الكوفيين يقول : إذا أثبتت الهاء في المرضعة فإنما يراد أم الصبي المرضع ، وإذا أسقطت فإنه يراد المرأة التي معها صبي ترضعه ، لأنه أريد الفعل بها . قالوا : ولو أريد بها الصفة فيما يرى لقال مرضع . قال : وكذلك كل مفعل أو فاعل يكون للأنثى ولا يكون للذكر ، فهو بغير هاء ، نحو : مقرب ، وموقر ، ومشدن ، وحامل ، وحائض .قال أبو جعفر : وهذا القول عندي أولى بالصواب في ذلك ، لأن العرب من شأنها إسقاط هاء التأنيث من كل فاعل ومفعل إذا وصفوا المؤنث به ، ولو لم يكن للمذكر فيه حظ ، فإذا أرادوا الخبر عنها أنها ستفعله ولم تفعله ، أثبتوا هاء التأنيث ليفرقوا بين الصفة والفعل . منه قول الأعشى فيما هو واقع ولم يكن وقع قبل :
أيا جارتا بيني فإنك طالقه كذاك أمور الناس غاد وطارقه
وأما فيما هو صفة ، نحو قول امرئ القيس : [ ص: 564 ]
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول
وربما أثبتوا الهاء في الحالتين وربما أسقطوهما فيهما ، غير أن الفصيح من كلامهم ما وصفت .
فتأويل الكلام إذن : يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة ، تنسى وتترك كل والدة مولود ترضع ولدها عما أرضعت .
كما حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ) قال : تترك ولدها للكرب الذي نزل بها .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن أبي بكر عن الحسن ( تذهل كل مرضعة عما أرضعت ) قال : ذهلت عن أولادها بغير فطام ( وتضع كل ذات حمل حملها ) قال : ألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام ، ( وتضع كل ذات حمل حملها ) يقول : وتسقط كل حامل من شدة كرب ذلك حملها .
وقوله ( وترى الناس سكارى ) قرأت قراء الأمصار ( وترى الناس سكارى ) على وجه الخطاب للواحد ، كأنه قال : وترى يا محمد الناس حينئذ سكارى وما هم بسكارى . وقد روي عن [ ص: 565 ] " وترى الناس " بضم التاء ونصب الناس ، من قول القائل : أريت ترى ، التي تطلب الاسم والفعل ، كظن وأخواتها . أبي زرعة بن عمرو بن جرير
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار ، لإجماع الحجة من القراء .
واختلف القراء في قراءة قوله ( سكارى ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( سكارى وما هم بسكارى ) . وقرأته عامة قراء أهل الكوفة ( وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ) .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب ، ومعنى الكلام : وترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكرب وشدته سكارى من الفزع وما هم بسكارى من شرب الخمر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك : قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن أبي بكر عن الحسن ( وترى الناس سكارى ) من الخوف ( وما هم بسكارى ) من الشراب .
قال ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن قوله ( ابن جريج وما هم بسكارى ) قال : ما هم بسكارى من الشراب ، ( ولكن عذاب الله شديد ) .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) قال : ما شربوا خمرا يقول تعالى ذكره : ( ولكن عذاب الله شديد ) يقول تعالى ذكره : ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيم هوله ، مع علمهم بشدة عذاب الله .