قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية . فقال بعضهم بما :
1777 - حدثنا به أبو كريب قال : حدثني - وحدثنا [ ص: 490 ] يونس بن بكير ابن حميد قال : حدثنا - قالا : حدثنا سلمة بن الفضل ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة عن ابن عباس : قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، الآية .
وقال آخرون بما : -
1778 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، وكان موسى يسأل ، فقيل له : ( أرنا الله جهرة ) .
1889 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن : ( السدي أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة ، فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة .
وقال آخرون بما : -
1780 - حدثني به محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة! فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا ، قال : نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا .
1781 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 491 ] ، عن ابن جريج مجاهد قال : سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، فقال : "نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة .
1782 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وقال آخرون بما : -
1783 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : قال رجل : يا رسول الله ، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة ، وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل ، قال : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) [ النساء : 110 ] . قال : وقال : "الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، كفارات لما بينهن" .
وقال : "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، ولا يهلك على الله إلا هالك" .
فأنزل الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) . [ ص: 492 ]
واختلف أهل العربية في معنى ( أم ) التي في قوله : ( أم تريدون ) . فقال بعض البصريين : هي بمعنى الاستفهام . وتأويل الكلام : أتريدون أن تسألوا رسولكم؟
وقال آخرون منهم : هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام ، كأنك تميل بها إلى أوله ، كقول العرب : إنها لإبل يا قوم أم شاء" و"لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟" قال : وليس قوله : ( أم تريدون ) على الشك ، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم . واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
وقال بعض نحويي الكوفيين : إن شئت جعلت قوله : ( أم تريدون ) استفهاما على كلام قد سبقه ، كما قال جل ثناؤه : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه ) [ السجدة : 1 - 3 ] ، فجاءت "أم" وليس قبلها استفهام ، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه . وقال قائل هذه المقالة : "أم" في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين : إحداهما أن تفرق معنى "أي" ، والأخرى : أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق ، والذي ينوى بها الابتداء ، إلا أنه ابتداء متصل بكلام ، فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت ، لم يكن إلا ب "الألف" أو ب "هل" . [ ص: 493 ]
قال : وإن شئت قلت في قوله : ( أم تريدون ) ، قبله استفهام ، فرد عليه وهو في قوله : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل : أنه استفهام مبتدأ ، بمعنى : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز ، أن يستفهم القوم ب "أم" ، وإن كانت "أم" أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام ، لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام . ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام . ونظيره قوله جل ثناؤه : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه ) [ السجدة : 1 - 3 ] وقد تكون "أم" بمعنى "بل" ، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه "أي" ، فيقولون : "هل لك قبلنا حق ، أم أنت رجل معروف بالظلم؟" وقال الشاعر :
فوالله ما أدري أسلمى تغولت أم النوم أم كل إلي حبيب
يعني : بل كل إلي حبيب .
وقد كان بعضهم يقول - منكرا قول من زعم أن "أم" في قوله : ( أم تريدون ) [ ص: 494 ] استفهام مستقبل منقطع من الكلام ، يميل بها إلى أوله - : إن الأول خبر ، والثاني استفهام ، والاستفهام لا يكون في الخبر ، والخبر لا يكون في الاستفهام ، ولكن أدركه الشك - بزعمه - بعد مضي الخبر ، فاستفهم .
قال أبو جعفر : فإذا كان معنى "أم" ما وصفنا ، فتأويل الكلام : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم ، فتكفروا - إن منعتموه - في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه ، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه ، فأعطاكموه ، ثم كفرتم من بعد ذلك ، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم ، فلما أعطيت كفرت ، فعوجلت بالعقوبات لكفرها ، بعد إعطاء الله إياها سؤلها .