قال أبو جعفر : أما قوله : ( فقد ضل ) ، فإنه يعني به ذهب وحاد . وأصل "الضلال عن الشيء" ، الذهاب عنه والحيد ، ثم يستعمل في الشيء الهالك ، [ ص: 496 ] والشيء الذي لا يؤبه له ، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة : "ضل بن ضل" ، و "قل بن قل" ، وكقول الأخطل ، في الشيء الهالك :
كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا
يعني : هلك فذهب .
والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( فقد ضل سواء السبيل ) ، فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه .
وأما تأويل قوله : ( سواء السبيل ) ، فإنه يعني ب "السواء" ، القصد والمنهج .
وأصل "السواء" الوسط . ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال : "ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي" ، يعني : وسطي . وقال حسان بن ثابت :
يا ويح أنصار النبي ونسله بعد المغيب في سواء الملحد
يعني بالسواء : الوسط . والعرب تقول : "هو في سواء السبيل" ، يعني في مستوى السبيل ، "وسواء الأرض" : مستواها ، عندهم .
وأما "السبيل" ، فإنها الطريق المسبول ، صرف من "مسبول" إلى"سبيل" .
فتأويل الكلام إذا : ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر ، فيرتد عن دينه ، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول .
وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق ، والمعني به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده ، وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه ، وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته . فجعل - جل ثناؤه - الطريق - الذي إذا ركب محجته السائر فيه ، ولزم وسطه المجتاز فيه ، نجا وبلغ حاجته ، وأدرك طلبته - لدينه الذي دعا إليه عباده ، مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه ، طلباتهم في آخرتهم ، كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها ، والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده . وجعل مثل الحائد عن دينه ، الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته - في إخطائه ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده ، وذهابه عما أمل من ثواب عمله ، وبعده به من ربه - مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل ، الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه ، إلا ازداد من موضع حاجته بعدا ، [ ص: 498 ] وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا .
وهذه السبيل التي أخبر الله عنها ، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها ، هي الصراط المستقيم" ، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) .