[ ص: 64 ] [ ص: 65 ] [ ص: 66 ] [ ص: 67 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : ( الم ( 1 ) غلبت الروم ( 2 ) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ( 3 ) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ( 4 ) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ( 5 ) )
قال أبو جعفر : قد بينا فيما مضى قبل معنى قوله : ( الم ) وذكرنا ما فيه من أقوال أهل التأويل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : ( غلبت الروم في أدنى الأرض ) اختلفت القراء في قراءته ، فقرأته عامة قراء الأمصار ( غلبت الروم ) بضم الغين ، بمعنى أن فارس غلبت الروم .
وروي عن ابن عمر وأبي سعيد في ذلك ما حدثنا ابن وكيع قال : ثني أبي ، عن الحسن الجفري ، عن سليط قال : سمعت ابن عمر يقرأ ( الم غلبت الروم ) فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ، على أي شيء غلبوا ؟ قال : على ريف الشام .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره ( الم غلبت الروم ) بضم الغين ؛ لإجماع الحجة من القراء عليه . فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : غلبت فارس الروم ( في أدنى الأرض ) من أرض الشام إلى أرض فارس ( وهم من بعد غلبهم ) يقول : والروم من بعد غلبة فارس إياهم ( سيغلبون ) فارس ( في بضع سنين لله الأمر من قبل ) غلبتهم فارس ( ومن بعد ) غلبتهم إياها ، يقضي في خلقه ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ويظهر من شاء منهم على من أحب إظهاره عليه ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) يقول : ويوم يغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بالله ورسوله بنصر الله إياهم على المشركين ، ونصرة الروم على فارس ( ينصر ) الله - تعالى ذكره - ( من يشاء ) من خلقه ، على من يشاء ، وهو نصرة المؤمنين على المشركين ببدر ، ( وهو العزيز ) يقول : والله الشديد في انتقامه من أعدائه ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ولا يحول بينه وبينه حائل ، [ ص: 68 ] ( الرحيم ) بمن تاب من خلقه وراجع طاعته أن يعذبه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى محمد بن سعيد - أو ، سعيد الثعلبي ، الذي يقال له أبو سعد من أهل طرسوس - قال : ثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن عن سفيان بن سعيد الثوري ، حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم أهل الكتاب ، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس ؛ لأنهم أهل أوثان ، قال : فذكروا ذلك لأبي بكر ، فذكره أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أما إنهم سيهزمون " ، قال : فذكر ذلك أبو بكر للمشركين ، قال : فقالوا : أفنجعل بيننا وبينكم أجلا فإن غلبوا كان لك كذا وكذا ، وإن غلبنا كان لنا كذا وكذا ، وقال : فجعلوا بينهم وبينه أجلا خمس سنين ، قال : فمضت فلم يغلبوا ، قال : فذكر ذلك أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له : " أفلا جعلته دون العشر " ، قال سعيد : والبضع ما دون العشر ، قال : فغلب الروم ، ثم غلبت ، قال : فذلك قوله : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) قال : البضع : ما دون العشر ، ( لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) قال سفيان : فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال : ثنا موسى بن هارون البردي قال : ثنا قال : ثنا معن بن عيسى عبد الله بن عبد الرحمن ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس قال : الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) الآية ، ناحب أبو بكر قريشا ، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له : إني قد ناحبتهم ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هلا احتطت ، فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع " . قال الجمحي : المناحبة : المراهنة ، وذلك قبل أن يكون تحريم ذلك . لما نزلت (
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( الم غلبت الروم ) إلى قوله : ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) قال : قد مضى ، كان ذلك في أهل فارس والروم ، وكانت فارس قد غلبتهم ، ثم غلبت الروم بعد ذلك ، ولقي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مشركي العرب ، يوم التقت [ ص: 69 ] الروم وفارس ، فنصر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين على مشركي العرب ، ونصر أهل الكتاب على مشركي العجم ، ففرح المؤمنون بنصر الله إياهم ، ونصر أهل الكتاب على العجم . قال عطية : فسألت عن ذلك ، فقال : التقينا مع أبا سعيد الخدري محمد رسول - صلى الله عليه وسلم - ومشركي العرب ، والتقت الروم وفارس ، فنصرنا الله على مشركي العرب ، ونصر الله أهل الكتاب على المجوس ، ففرحنا بنصر الله إيانا على المشركين ، وفرحنا بنصر الله أهل الكتاب على المجوس ، فذلك قوله : ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) غلبتهم فارس ، ثم غلبت الروم .
حدثني أبو السائب قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : قال عبد الله خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم .
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى عبد الأعلى قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود قال : قد مضى ( الم غلبت الروم ) .
حدثنا محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( الم غلبت الروم ) إلى قوله : ( أكثر الناس لا يعلمون ) قال : ذكر غلبة فارس إياهم ، وإدالة الروم على فارس ، وفرح المؤمنين بنصر الروم أهل الكتاب على فارس من أهل الأوثان .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن عكرمة ، أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض ، قالوا : وأدنى الأرض يومئذ أذرعات ، بها التقوا ، فهزمت الروم ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم بمكة ، فشق ذلك عليهم ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ، ففرح الكفار بمكة وشمتوا ، فلقوا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : إنكم أهل الكتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن [ ص: 70 ] عليكم ، فأنزل الله ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) الآيات ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار ، فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ؟ فلا تفرحوا ، ولا يقرن الله أعينكم ، فوالله ليظهرن الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فقام إليه أبي بن خلف ، فقال : كذبت يا أبا فضيل ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : أناحبك عشر قلائص مني ، وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس على الروم غرمت إلى ثلاث سنين ، ثم جاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال : " ما هكذا ذكرت ، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الخطر ، وماده في الأجل " . فخرج أبو بكر فلقي أبيا ، فقال : لعلك ندمت ، فقال : لا فقال : أزايدك في الخطر ، وأمادك في الأجل ، فاجعلها مئة قلوص لمئة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة قال : كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال ، فدعاها كسرى ، فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك ، فأشيري علي أيهم أستعمل ، فقالت : هذا فلان ، وهو أروغ من ثعلب ، وأحذر من صرد ، وهذا فرخان ، وهو أنفذ من سنان ، وهذا شهربراز ، وهو أحلم من كذا ، فاستعمل أيهم شئت ، قال : إني قد استعملت الحليم ، فاستعمل شهربراز ، فسار إلى الروم بأهل فارس ، وظهر عليهم ، فقتلهم ، وخرب مدائنهم ، وقطع زيتونهم . قال أبو بكر : فحدثت بهذا الحديث فقال : أما رأيت بلاد عطاء الخراساني الشام ؟ قلت : لا قال : أما إنك لو رأيتها لرأيت المدائن التي خربت ، والزيتون الذي قطع ، فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته .
قال : ثني عطاء الخراساني أن يحيى بن يعمر ، قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم ، وبعث كسرى شهربراز ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إليكم ، فلقيت فارس الروم ، فغلبتهم فارس ، ففرح بذلك كفار قريش ، وكرهه المسلمون ، فأنزل الله ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) الآيات ، ثم ذكر مثل حديث عكرمة ، وزاد : فلم يزل شهربراز يطؤهم ، ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ، ثم مات [ ص: 71 ] كسرى ، فبلغهم موته ، فانهزم شهربراز وأصحابه ، وأوعبت عليهم الروم عند ذلك ، فأتبعوهم يقتلونهم قال : وقال عكرمة في حديثه : لما ظهرت فارس على الروم جلس فرخان يشرب ، فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كسرى ، فكتب إلى شهربراز : إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان . فكتب إليه : أيها الملك ، إنك لن تجد مثل فرخان ، إن له نكاية وضربا في العدو ، فلا تفعل . فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفا منه ، فعجل إلي برأسه ، فراجعه ، فغضب كسرى ، فلم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس ، إني قد نزعت عنكم شهربراز ، واستعملت عليكم فرخان ، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة : إذا ولي فرخان الملك ، وانقاد له أخوه ، فأعطه هذه ؛ فلما قرأ شهربراز الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرخان ، ودفع الصحيفة إليه ، قال : ائتوني بشهربراز ، فقدمه ليضرب عنقه ، قال : لا تعجل حتى أكتب وصيتي ، قال : نعم ، فدعا بالسفط ، فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد ، فرد الملك ، وكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم : إن لي إليك حاجة لا يحملها البريد ، ولا تبلغها الصحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين روميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا ، فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتته عيونه أن ليس معه إلا خمسون رجلا ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، مع كل واحد منهما سكين ، فدعيا ترجمانا بينهما ، فقال شهربراز : إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حسدنا ، فأراد أن أقتل أخي ، فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك . فقال : قد أصبتما ، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين ، فإذا جاوز اثنين فشا . قال : أجل ، فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما ، فأهلك الله كسرى ، وجاء الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ، ففرح ومن معه .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، قتادة ( الم غلبت الروم ) قال : غلبتهم فارس على أدنى الشام ( وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) الآية ، قال : لما أنزل الله هؤلاء الآيات صدق المسلمون ربهم ، وعلموا أن الروم سيظهرون على فارس ، فاقتمروا هم والمشركون خمس قلائص خمس قلائص ، وأجلوا بينهم خمس سنين ، [ ص: 72 ] فولي قمار المسلمين أبو بكر رضي الله عنه ، وولي قمار المشركين أبي بن خلف ، وذلك قبل أن ينهى عن القمار ، فحل الأجل ، ولم يظهر الروم على فارس ، وسأل المشركون قمارهم ، فذكر ذلك أصحاب النبي للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لم تكونوا أحقاء أن تؤجلوا دون العشر ، فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر ، وزايدوهم في القمار ، ومادوهم في الأجل " ، ففعلوا ذلك ، فأظهر الله الروم على فارس عند رأس البضع سنين من قمارهم الأول ، وكان ذلك مرجعه من الحديبية ، ففرح المسلمون بصلحهم الذي كان ، وبظهور أهل الكتاب على المجوس ، وكان ذلك مما شدد الله به الإسلام وهو قوله : ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) الآية . عن
حدثني يعقوب قال : ثنا عن ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، الشعبي في قوله : ( الم غلبت الروم ) إلى قوله : ( ويومئذ يفرح المؤمنون ) قال : بمكة أن الروم ستغلب ، قال : فنزل القرآن بذلك ، قال : وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على فارس ؛ لأنهم أهل الكتاب . كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر الناس
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا المحاربي ، عن عن داود بن أبي هند ، عامر ، عن عبد الله قال : فارس ظاهرة على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ؛ لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت ( الم غلبت الروم ) إلى ( في بضع سنين ) قالوا : يا أبا بكر ، إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ، قال : صدق . قالوا : هل لك أن نقامرك ؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين ، فمضت السبع ولم يكن شيء ، ففرح المشركون بذلك ، وشق على المسلمين ، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - : فقال : " ما بضع سنين عندكم ؟ " قالوا : دون العشر . قال : " اذهب ، فزايدهم وازدد سنتين " قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المسلمون بذلك ، فأنزل الله : ( الم غلبت الروم ) إلى قوله : ( وعد الله لا يخلف الله وعده ) . كانت
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ومطر ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : مضت الروم .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) [ ص: 73 ] قال : أدنى الأرض : الشأم ، ( وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) قال : فارس قد غلبت الروم ، ثم أديل الروم على فارس ، وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الروم ستغلب فارس " ، فقال المشركون : هذا مما يتخرص محمد ، فقال أبو بكر : تناحبونني ؟ - والمناحبة : المجاعلة - قالوا : نعم . فناحبهم أبو بكر ، فجعل السنين أربعا أو خمسا ، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن البضع فيما بين الثلاث إلى التسع ، فارجع إلى القوم ، فزد في المناحبة " ، فرجع إليهم . قالوا : فناحبهم فزاد . قال : فغلبت الروم فارس ، فذلك قول الله : ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء ) يوم أديلت الروم على فارس . كانت
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا معاوية بن عمرو ، عن عن أبي إسحاق الفزاري ، سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( الم غلبت الروم ) قال : غلبت وغلبت ؛ فأما الذين قرءوا ذلك : ( غلبت الروم ) بفتح الغين ، فإنهم قالوا : نزلت هذه الآية خبرا من الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن غلبة الروم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن علي قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن عن سليمان - يعني الأعمش - عطية ، عن أبي سعيد قال : لما كان يوم ظهر الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت ( الم غلبت الروم ) على فارس .
حدثنا قال : ثنا محمد بن المثنى يحيى بن حماد قال : ثنا أبو عوانة ، عن سليمان ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر ، غلبت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بذلك ، فأنزل الله ( الم غلبت الروم ) إلى آخر الآية .
حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر ، ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ؛ لأنهم أهل كتاب ، فأنزل الله ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) قال : كانوا قد غلبوا قبل ذلك ، ثم قرأ حتى بلغ ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) .
وقوله : ( في أدنى الأرض ) قد ذكرت قول بعضهم فيما تقدم قبل ، وأذكر [ ص: 74 ] قول من لم يذكر قوله .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( في أدنى الأرض ) يقول : في طرف الشام . ومعنى قوله أدنى : أقرب ، وهو أفعل من الدنو والقرب . وإنما معناه : في أدنى الأرض من فارس ، فترك ذكر فارس استغناء بدلالة ما ظهر من قوله : ( في أدنى الأرض ) عليه منه . وقوله : ( وهم من بعد غلبهم ) يقول : والروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس .
وقوله : ( من بعد غلبهم ) مصدر من قول القائل : غلبته غلبة ، فحذفت الهاء من الغلبة . وقيل : من بعد غلبهم ، ولم يقل : من بعد غلبتهم للإضافة ، كما حذفت من قوله : ( وإقام الصلاة ) للإضافة . وإنما الكلام : وإقامة الصلاة .
وأما قوله : ( سيغلبون ) فإن القراء أجمعين على فتح الياء فيها ، والواجب على قراءة من قرأ : ( الم غلبت الروم ) بفتح الغين ، أن يقرأ قوله : ( سيغلبون ) بضم الياء ، فيكون معناه : وهم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون ، حتى يصح معنى الكلام ، وإلا لم يكن للكلام كبير معنى إن فتحت الياء ، لأن الخبر عما قد كان يصير إلى الخبر عن أنه سيكون ، وذلك إفساد أحد الخبرين بالآخر .
وقوله : ( في بضع سنين ) قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في معنى البضع فيما مضى ، وأتينا على الصحيح من أقوالهم ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقد حدثنا ابن حميد قال : ثنا الحكم بن بشير قال : ثنا خلاد بن أسلم الصفار ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو قال : قلت له : ما البضع ؟ قال : زعم أهل الكتاب أنه تسع أو سبع .
وأما قوله : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) فإن القاسم حدثنا ، قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن قوله : ( ابن جريج لله الأمر من قبل ) دولة فارس على الروم ، ( ومن بعد ) دولة الروم على فارس .
وأما قوله : ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء ) فقد ذكرنا الرواية في تأويله قبل ، وبينا معناه .