يعني - تعالى ذكره - بقوله ( هذا ) : الذي وصفت لهؤلاء المتقين : ثم استأنف جل وعز الخبر عن الكافرين به الذين طغوا عليه وبغوا ، فقال : ( وإن للطاغين ) وهم الذين تمردوا على ربهم ، فعصوا أمره مع إحسانه إليهم ( لشر مآب ) يقول : لشر مرجع ومصير يصيرون إليه في الآخرة بعد خروجهم من الدنيا .
كما حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي وإن للطاغين لشر مآب ) قال : لشر منقلب . ثم بين - تعالى ذكره - : ما ذلك الذي إليه ينقلبون ويصيرون في الآخرة ، فقال : ( جهنم يصلونها ) [ ص: 225 ] فترجم عن جهنم بقوله ( لشر مآب ) ومعنى الكلام : إن للكافرين لشر مصير يصيرون إليه يوم القيامة ، لأن مصيرهم إلى جهنم ، وإليها منقلبهم بعد وفاتهم ( فبئس المهاد ) يقول - تعالى ذكره - : فبئس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم جهنم .
وقوله ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) يقول - تعالى ذكره - : هذا حميم ، وهو الذي قد أغلي حتى انتهى حره ، وغساق فليذوقوه ، فالحميم مرفوع بهذا ، وقوله ( فليذوقوه ) معناه التأخير ، لأن معنى الكلام ما ذكرت ، وهو : هذا حميم وغساق فليذوقوه . وقد يتجه إلى أن يكون هذا مكتفيا بقوله فليذوقوه ثم يبتدأ فيقال : حميم وغساق ، بمعنى : منه حميم ومنه غساق .
كما قال الشاعر :
حتى إذا أضاء الصبح في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود
وإذا وجه إلى هذا المعنى جاز في هذا النصب والرفع . النصب على أن يضمر قبلها لها ناصب ، كما قال الشاعر :
زيادتنا نعمان لا تحرمننا تق الله فينا والكتاب الذي تتلو
والرفع بالهاء في قوله ( فليذوقوه ) كما يقال : الليل فبادروه ، والليل فبادروه .
[ ص: 226 ] حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي هذا فليذوقوه حميم وغساق ) قال : الحميم الذي قد انتهى حره .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : الحميم دموع أعينهم ، تجمع في حياض النار فيسقونه .
وقوله ( وغساق ) اختلفت القراء في قراءته ، فقرأته عامة قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين والشام بالتخفيف : " وغساق " وقالوا : هو اسم موضوع . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : ( وغساق ) مشددة ، ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم : غسق يغسق غسوقا : إذا سال ، وقالوا : إنما معناه : أنهم يسقون الحميم ، وما يسيل من صديدهم .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وإن كان التشديد في السين أتم عندنا في ذلك ، لأن المعروف ذلك في الكلام ، وإن كان الآخر غير مدفوعة صحته .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هو ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) قال : كنا نحدث أن الغساق : ما يسيل من بين جلده ولحمه .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن قال : الغساق : الذي يسيل من أعينهم من دموعهم ، يسقونه مع الحميم . السدي
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : الغساق : ما يسيل من سرمهم ، وما يسقط من جلودهم .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد [ ص: 227 ] ( الغساق ) : الصديد الذي يجمع من جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه .
حدثني قال : ثني أبي قال : ثنا يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ابن لهيعة قال : ثني أبو قبيل أنه سمع أبا هبيرة الزيادي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : أي شيء الغساق ؟ قالوا : الله أعلم ، فقال عبد الله بن عمرو : هو القيح الغليظ ، لو أن قطرة منه تهراق في المغرب لأنتنت أهل المشرق ، ولو تهراق في المشرق لأنتنت أهل المغرب .
قال يحيى بن عثمان قال أبي : ثنا ابن لهيعة مرة أخرى ، فقال : ثنا أبو قبيل عن عبد الله بن هبيرة ولم يذكر لنا أبا هبيرة .
حدثنا ابن عوف قال : ثنا أبو المغيرة قال : ثنا صفوان قال : ثنا أبو يحيى عطية الكلاعي أن كعبا كان يقول : هل تدرون ما غساق ؟ قالوا : لا والله قال : عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية أو عقرب أو غيرها ، فيستنقع فيؤتى بالآدمي ، فيغمس فيها غمسة واحدة ، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام . حتى يتعلق جلده في كعبيه وعقبيه ، وينجر لحمه كجر الرجل ثوبه .
وقال آخرون : هو البارد الذي لا يستطاع من برده .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن يحيى بن أبي زائدة عن عن ابن جريج مجاهد ( وغساق ) قال : بارد لا يستطاع ، أو قال : برد لا يستطاع .
حدثني علي بن عبد الأعلى قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) قال : يقال : الغساق : أبرد البرد ، ويقول آخرون : لا بل هو أنتن النتن .
وقال آخرون : بل هو المنتن .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن المسيب عن إبراهيم النكري عن صالح بن حيان عن [ ص: 228 ] أبيه ، عن عبد الله بن بريدة قال : الغساق : المنتن ، وهو بالطخارية .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي سعيد الخدري " . لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو ما يسيل من صديدهم ، لأن ذلك هو الأغلب من معنى الغسوق ، وإن كان للآخر وجه صحيح .
وقوله ( وآخر من شكله أزواج ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والكوفة ( وآخر من شكله أزواج ) على التوحيد ، بمعنى : هذا حميم وغساق فليذوقوه ، وعذاب آخر من نحو الحميم ألوان وأنواع ، كما يقال : لك عذاب من فلان : ضروب وأنواع ، وقد يحتمل أن يكون مرادا بالأزواج الخبر عن الحميم والغساق ، وآخر من شكله ، وذلك ثلاثة ، فقيل أزواج ، يراد أن ينعت بالأزواج تلك الأشياء الثلاثة . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين : " وأخر " على الجماع ، وكأن من قرأ ذلك كذلك كان عنده لا يصلح أن يكون الأزواج وهي جمع نعتا لواحد ، فلذلك جمع أخر ؛ لتكون الأزواج نعتا لها ، والعرب لا تمنع أن ينعت الاسم إذا كان فعلا بالكثير والقليل والاثنين كما بينا ، فتقول : عذاب فلان أنواع ، ونوعان مختلفان .
وأعجب القراءتين إلي أن أقرأ بها : ( وآخر ) على التوحيد ، وإن كانت الأخرى صحيحة لاستفاضة القراءة بها في قراء الأمصار ، وإنما اخترنا التوحيد لأنه أصح مخرجا في العربية ، وأنه في التفسير بمعنى التوحيد . وقيل إنه الزمهرير .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن [ ص: 229 ] عن السدي مرة عن عبد الله ( وآخر من شكله أزواج ) قال الزمهرير .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى قال : ثنا سفيان ، عن عن السدي مرة عن عبد الله بمثله .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا معاوية ، عن سفيان ، عن عمن أخبره عن السدي عبد الله بمثله ، إلا أنه قال : عذاب الزمهرير .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن عن السدي عن مرة الهمداني قال : هو الزمهرير . عبد الله بن مسعود
حدثت عن يحيى بن أبي زائدة عن عن مبارك بن فضالة الحسن قال : ذكر الله العذاب ، فذكر السلاسل والأغلال ، وما يكون في الدنيا ، ثم قال : ( وآخر من شكله أزواج ) قال : وآخر لم ير في الدنيا .
وأما قوله ( من شكله ) فإن معناه : من ضربه ، ونحوه . يقول الرجل للرجل : ما أنت من شكلي ، بمعنى : ما أنت من ضربي بفتح الشين . وأما الشكل فإنه من المرأة ما علقت مما تتحسن به ، وهو الدل أيضا منها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( وآخر من شكله أزواج ) يقول : من نحوه .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وآخر من شكله أزواج ) من نحوه .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وآخر من شكله أزواج ) قال : من كل شكل ذلك العذاب الذي سمى الله - أزواج لم يسمها الله قال : والشكل الشبيه .
وقوله ( أزواج ) يعني : ألوانا وأنواعا .
[ ص: 230 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب قال : ثنا عن ابن علية ، أبي رجاء ، عن الحسن في قوله ( وآخر من شكله أزواج ) قال : ألوان من العذاب .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( أزواج ) زوج زوج من العذاب .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( أزواج ) قال : أزواج من العذاب في النار .
وقوله ( هذا فوج مقتحم معكم ) يعني - تعالى ذكره - بقوله ( هذا فوج ) هذا فرقة وجماعة مقتحمة معكم أيها الطاغون - النار ، وذلك دخول أمة من الأمم الكافرة بعد أمة ، ( لا مرحبا بهم إنهم صالو النار ) وهذا خبر من الله عن قيل الطاغين الذين كانوا قد دخلوا النار قبل هذا الفوج المقتحم للفوج المقتحم فيها عليهم ، لا مرحبا بهم ، ولكن الكلام اتصل فصار كأنه قول واحد ، كما قيل : ( يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ) فاتصل قول فرعون بقول ملئه ، وهذا كما قال - تعالى ذكره - مخبرا عن أهل النار : ( كلما دخلت أمة لعنت أختها )
ويعني بقولهم : ( لا مرحبا بهم ) لا اتسعت بهم مداخلهم ، كما قال أبو الأسود :
لا مرحبا واديك غير مضيق
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل .
[ ص: 231 ] ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( هذا فوج مقتحم معكم ) في النار ( لا مرحبا بهم إنهم صالو النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم ) . . حتى بلغ : ( فبئس القرار ) قال : هؤلاء التباع يقولون للرءوس .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم ) قال : الفوج : القوم الذين يدخلون فوجا بعد فوج ، وقرأ : ( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) التي كانت قبلها . وقوله ( إنهم صالو النار ) يقول : إنهم واردو النار وداخلوها . ( قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم ) يقول : قال الفوج الواردون جهنم على الطاغين الذين وصف - جل ثناؤه - صفتهم لهم : بل أنتم أيها القوم لا مرحبا بكم : أي لا اتسعت بكم أماكنكم ، ( أنتم قدمتموه لنا ) يعنون : أنتم قدمتم لنا سكنى هذا المكان ، وصلي النار بإضلالكم إيانا ، ودعائكم لنا إلى الكفر بالله ، وتكذيب رسله ، حتى ضللنا باتباعكم ، فاستوجبنا سكنى جهنم اليوم ، فذلك تقديمهم لهم ما قدموا في الدنيا من عذاب الله لهم في الآخرة
( فبئس القرار ) يقول : فبئس المكان يستقر فيه جهنم .