يقول - تعالى ذكره - : وحشر الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه في الدنيا ، وأخلصوا له فيها الألوهة ، وأفردوا له العبادة ، فلم يشركوا في عبادتهم إياه شيئا ( إلى الجنة زمرا ) يعني جماعات ، فكان سوق هؤلاء إلى منازلهم من الجنة وفدا على ما قد بينا قبل فى سورة مريم على نجائب من نجائب الجنة ، وسوق الآخرين إلى النار دعا ووردا ، كما قال الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . وقد ذكر ذلك في أماكنه من هذا الكتاب .
وقد حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ) ، وفي قوله : ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ) قال : كان سوق أولئك عنفا وتعبا ودفعا ، وقرأ : ( يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ) قال : يدفعون دفعا ، وقرأ : ( فذلك الذي يدع اليتيم ) . قال : يدفعه ، وقرأ ( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا - و - نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) . ثم قال : فهؤلاء وفد الله .
حدثنا مجاهد بن موسى قال : ثنا يزيد قال : أخبرنا شريك بن [ ص: 339 ] عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن رضي الله عنه قوله : ( علي بن أبي طالب وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ) حتى إذا انتهوا إلى بابها ، إذا هم بشجرة يخرج من أصلها عينان ، فعمدوا إلى إحداهما ، فشربوا منها كأنما أمروا بها ، فخرج ما في بطونهم من قذر أو أذى أو قذى ، ثم عمدوا إلى الأخرى ، فتوضئوا منها كأنما أمروا به ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن تشعث رءوسهم بعدها أبدا ولن تبلى ثيابهم بعدها ، ثم دخلوا الجنة ، فتلقتهم الولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون ، فيقولون : أبشر ، أعد الله لك كذا ، وأعد لك كذا وكذا ، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه جندل اللؤلؤ الأحمر والأصفر والأخضر ، يتلألأ كأنه البرق ، فلولا أن الله قضى أن لا يذهب بصره لذهب ، ثم يأتي بعضهم إلى بعض أزواجه ، فيقول : أبشري قد قدم فلان بن فلان ، فيسميه باسمه واسم أبيه ، فتقول : أنت رأيته ، أنت رأيته! فيستخفها الفرح حتى تقوم ، فتجلس على أسكفة بابها ، فيدخل فيتكئ على سريره ، ويقرأ هذه الآية : ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) . . . الآية .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن قال : ذكر السدي أبو إسحاق عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه قال : يساقون إلى الجنة ، فينتهون إليها ، فيجدون عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان تجريان ، فيعمدون إلى إحداهما ، فيغتسلون منها ، فتجري عليهم نضرة النعيم ، فلن تشعث رءوسهم بعدها أبدا ، ولن تغبر جلودهم بعدها أبدا ، كأنما دهنوا بالدهان ، ويعمدون إلى الأخرى ، فيشربون منها ، فيذهب ما في بطونهم من قذى أو أذى ، ثم يأتون باب الجنة فيستفتحون ، فيفتح لهم ، فتتلقاهم خزنة الجنة فيقولون ( سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) قال : وتتلقاهم الولدان المخلدون ، يطيفون بهم كما تطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم إذا جاء من الغيبة ، يقولون : أبشر أعد الله لك كذا ، وأعد لك كذا ، فينطلق أحدهم إلى زوجته ، فيبشرها به ، فيقول : قدم فلان باسمه الذي كان يسمى به في الدنيا ، وقال : فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها ، وتقول : أنت رأيته ، أنت رأيته ؟ قال : فيقول : نعم ، قال : [ ص: 340 ] فيجيء حتى يأتي منزله ، فإذا أصوله من جندل اللؤلؤ من بين أصفر وأحمر وأخضر ، قال : فيدخل فإذا الأكواب موضوعة ، والنمارق مصفوفة ، والزرابي مبثوثة قال : ثم يدخل إلى زوجته من الحور العين ، فلولا أن الله أعدها له لالتمع بصره من نورها وحسنها ، قال : فاتكأ عند ذلك ويقول : ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) قال : فتناديهم الملائكة : ( أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط قال : ذكر نحوه أيضا ، غير أنه قال : لهو أهدى إلى منزله في الجنة منه إلى منزله في الدنيا ، ثم قرأ السدي : ( السدي ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) .
واختلف أهل العربية في موضع جواب " إذا " التي في قوله ( حتى إذا جاءوها ) فقال بعض نحويي البصرة : يقال إن قوله ( وقال لهم خزنتها ) في معنى : قال لهم ، كأنه يلغي الواو ، وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة ، كما قال الشاعر :
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن إلا توهم حالم بخيال
فيشبه أن يكون يريد : فإذا ذلك لم يكن . قال : وقال بعضهم : فأضمر الخبر ، وإضمار الخبر أيضا أحسن في الآية ، وإضمار الخبر في الكلام كثير . وقال آخر منهم : هو مكفوف عن خبره ، قال : والعرب تفعل مثل هذا ، قال عبد مناف بن ربع في آخر قصيدة :
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وقال الأخطل في آخر القصيدة :
خلا أن حيا من قريش تفضلوا على الناس أو أن الأكارم نهشلا
وقال بعض نحويي الكوفة : أدخلت في حتى إذا وفي فلما والواو في جوابها وأخرجت ، فأما من أخرجها فلا شيء فيه ، ومن أدخلها شبه الأوائل بالتعجب ، فجعل الثاني نسقا على الأول ، وإن كان الثاني جوابا كأنه قال : أتعجب لهذا وهذا .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : الجواب متروك ، وإن كان القول الآخر غير مدفوع ، وذلك أن قوله : ( وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) يدل على أن في الكلام متروكا ، إذ كان عقيبه ( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ) ، وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : حتى إذا جاءوا وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، دخلوها وقالوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده . وعنى بقوله ( سلام عليكم ) : أمنة من الله لكم أن ينالكم بعد مكروه أو أذى . وقوله ( طبتم ) يقول : طابت أعمالكم في الدنيا ، فطاب اليوم مثواكم .
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثنا محمد بن عمر قال : ثنا أبو عاصم . قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا [ ص: 342 ] ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يقول في ( طبتم ) قال : كنتم طيبين في طاعة الله .
وقوله : ( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ) يقول وقال الذين سيقوا زمرا ودخلوها : الشكر خالص لله الذي صدقنا وعده ، الذي كان وعدناه في الدنيا على طاعته ، فحققه بإنجازه لنا اليوم ، ( وأورثنا الأرض ) يقول : وجعل أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا ، فدخلوها ، ميراثا لنا عنهم .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وأورثنا الأرض ) قال : أرض الجنة .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي وأورثنا الأرض ) أرض الجنة .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وأورثنا الأرض ) قال : أرض الجنة ، وقرأ : ( أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) .
وقوله : ( نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) يقول : نتخذ من الجنة بيتا ، ونسكن منها حيث نحب ونشتهي .
كما حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) ننزل منها حيث نشاء .
وقوله : ( فنعم أجر العاملين ) يقول : فنعم ثواب المطيعين لله ، العاملين له في الدنيا الجنة لمن أعطاه الله إياها في الآخرة .