القول في تأويل قوله تعالى : ( ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ( 32 ) يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ( 33 ) )
يقول - تعالى ذكره - مخبرا عن قيل هذا المؤمن لفرعون وقومه : ( ويا قوم إني أخاف عليكم ) بقتلكم موسى إن قتلتموه عقاب الله ( يوم التناد ) .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( يوم التناد ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار : ( يوم التناد ) بتخفيف الدال ، وترك إثبات الياء ، بمعنى التفاعل ، من تنادى القوم تناديا ، كما قال - جل ثناؤه - : ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم ) وقال : ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء ) فلذلك تأوله قارئو ذلك كذلك . [ ص: 380 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار محمد بن عبد الله الأنصاري قال : ثنا سعيد ، عن قتادة أنه قال في هذه الآية ( يوم التناد ) قال : يوم ينادي أهل النار أهل الجنة : أن أفيضوا علينا من الماء .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ) يوم ينادي أهل الجنة أهل النار ( أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) وينادي أهل النار أهل الجنة ( أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله )
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يوم التناد ) قال : يوم القيامة ينادي أهل الجنة أهل النار .
وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معنى ذلك على هذه القراءة تأويل آخر على غير هذا الوجه .
وهو ما حدثنا به أبوكريب قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن زياد ، عن ، عن رجل من محمد بن كعب القرظي الأنصار ، عن ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ، ففزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله ، ويأمره الله أن يديمها ويطولها فلا يفتر ، وهي التي يقول الله : ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ) فيسير الله الجبال فتكون سرابا ، فترج الأرض بأهلها رجا ، وهي التي يقول الله : ( يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة ) فتكون كالسفينة المرتعة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها ، أو كالقنديل المعلق بالعرش ترجه الأرواح ، فتميد الناس على ظهرها ، فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار ، فتلقاها الملائكة ، فتضرب وجوهها ، فترجع ويولي الناس مدبرين ، ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي [ ص: 381 ] يقول الله : ( يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ) " . يأمر الله
فعلى هذا التأويل معنى الكلام : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا من فزع نفخة الفزع .
وقرأ ذلك آخرون : " يوم التناد " بتشديد الدال ، بمعنى التفاعل من الند ، وذلك إذا هربوا فندوا في الأرض ، كما تند الإبل : إذا شردت على أربابها .
ذكر من قال ذلك ، وذكر المعنى الذي قصد بقراءته ذلك كذلك .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : ثنا أبو أسامة ، عن الأجلح قال : سمعت الضحاك بن مزاحم قال : إذا كان يوم القيامة ، أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها ، ونزل من فيها من الملائكة ، فأحاطوا بالأرض ومن عليها ، ثم الثانية ، ثم الثالثة ، ثم الرابعة ، ثم الخامسة ، ثم السادسة ، ثم السابعة ، فصفوا صفا دون صف ، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم ، فإذا رآها أهل الأرض ندوا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا السبعة صفوف من الملائكة ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قول الله : ( إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ) وذلك قوله : ( وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم ) وقوله : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) وذلك قوله : ( وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ) .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن قوله ( السدي يوم التناد ) قال : تندون وروي عن أنه قرأ ذلك : " يوم التنادي " بإثبات الياء وتخفيف الدال . الحسن البصري
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار ، وهو تخفيف الدال وبغير إثبات الياء ، وذلك أن ذلك هو القراءة التي عليها الحجة مجمعة من قراء الأمصار ، وغير جائز خلافها فيما جاءت به نقلا . فإذا كان ذلك هو [ ص: 382 ] الصواب ، فمعنى الكلام : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا ، إما من هول ما قد عاينوا من عظيم سلطان الله ، وفظاعة ما غشيهم من كرب ذلك اليوم ، وإما لتذكير بعضهم بعضا إنجاز الله إياهم الوعد الذي وعدهم في الدنيا ، واستغاثة من بعضهم ببعض ، مما لقي من عظيم البلاء فيه .
وقوله : ( يوم تولون مدبرين ) فتأويله على التأويل الذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يوم يولون هاربين في الأرض حذار عذاب الله وعقابه عند معاينتهم جهنم " .
وتأويله على التأويل الذي قاله قتادة في معنى ( يوم التناد ) : يوم تولون منصرفين عن موقف الحساب إلى جهنم .
وبنحو ذلك روي الخبر عنه ، وعمن قال نحو مقالته في معنى ( يوم التناد ) .
ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر قال . ثنا يزيد قال . ثنا سعيد ، عن قتادة ( يوم تولون مدبرين ) : أي منطلقا بكم إلى النار .
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، القول الذي روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان الذي قاله قتادة في ذلك غير بعيد من الحق ، وبه قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال . ثنا أبو عاصم قال . ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( يوم تولون مدبرين ) قال : فارين غير معجزين .
وقوله : ( ما لكم من الله من عاصم ) يقول : ما لكم من الله مانع يمنعكم ، وناصر ينصركم . [ ص: 383 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال . ثنا سعيد ، عن قتادة ( ما لكم من الله من عاصم ) : أي من ناصر .
وقوله : ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) يقول : ومن يخذله الله فلم يوفقه لرشده ، فما له من موفق يوفقه له .