القول في تأويل قوله تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( 51 ) يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ( 52 ) )
يقول القائل : وما معنى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه ، ومثلوا به ، كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما . ومنهم من هم بقتله قومه ، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه ، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه ، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله ، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله ، و المؤمنين به في الحياة الدنيا ، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت ، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به ؟ قيل : إن لقوله : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) وجهين كلاهما صحيح معناه . أحدهما أن يكون معناه : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائناهم على من كذبنا وإظفارنا بهم ، حتى يقهروهم غلبة ، ويذلوهم بالظفر ذلة ، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان ، فأعطاهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر ، وكالذي فعل بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بإظهاره على من كذبه من قومه ، وإما بانتقامنا ممن حادهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذبهم وعاداهم ، كالذي فعل [ ص: 401 ] - تعالى ذكره - بنوح وقومه ، من تغريق قومه وإنجائه منهم ، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه ، إذ أهلكهم غرقا ، ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك ، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم ، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه ، بتسليطنا على قتله من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته ، وكفعلنا بقتلة يحيى ، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم ، فهذا أحد وجهيه . وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن الفضل قال : ثنا أسباط ، عن قول الله : ( السدي إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) قد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون ، وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قوما فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم . والوجه الآخر : أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين ، والمراد واحد ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : إنا لننصر رسولنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا به في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، كما بينا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع ، والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصا بعينه .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة ( ويوم يقوم ) بالياء . وينفع أيضا بالياء ، وقرأ ذلك بعض أهل مكة وبعض قراء البصرة : " تقوم " بالتاء ، و " تنفع " بالتاء .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . [ ص: 402 ]
وقد بينا فيما مضى أن العرب تذكر فعل الرجل وتؤنث إذا تقدم بما أغنى عن إعادته .
وعنى بقوله : ( ويوم يقوم الأشهاد ) يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة رسلها بالشهادة بأن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم ، وأن الأمم كذبتهم . والأشهاد : جمع شهيد ، كما الأشراف : جمع شريف .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة . ( ويوم يقوم الأشهاد ) من ملائكة الله وأنبيائه ، والمؤمنين به .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي ويوم يقوم الأشهاد ) يوم القيامة .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا مؤمل قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، في قول الله : ( ويوم يقوم الأشهاد ) قال الملائكة .
وقوله : ( يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ) يقول - تعالى ذكره - : ذلك يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم لأنهم لا يعتذرون إن اعتذروا إلا بباطل ، وذلك أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا ، وتابع عليهم الحجج فيها فلا حجة لهم في الآخرة إلا الاعتصام بالكذب بأن يقولوا : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) .
وقوله : ( ولهم اللعنة ) يقول : وللظالمين اللعنة ، وهي البعد من رحمة الله ( ولهم سوء الدار ) يقول : ولهم مع اللعنة من الله شر ما في الدار الآخرة ، وهو العذاب الأليم .