القول في تأويل قوله تعالى : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ( 24 ) )
يقول - تعالى ذكره - : وقال هؤلاء المشركون الذين تقدم خبره عنهم : ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ) : أي لعمري هذا قول مشركي العرب . [ ص: 78 ]
وقوله ( نموت ونحيا ) نموت نحن ونحيا وتحيا أبناؤنا بعدنا ، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم ، لأنهم منهم وبعضهم ، فكأنهم بحياتهم أحياء ، وذلك نظير قول الناس : ما مات من خلف ابنا مثل فلان ؛ لأنه بحياة ذكره به ، كأنه حي غير ميت ، وقد يحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون معناه : نحيا ونموت على وجه تقديم الحياة قبل الممات ، كما يقال : قمت وقعدت ، بمعنى : قعدت وقمت; والعرب تفعل ذلك في الواو خاصة إذا أرادوا الخبر عن شيئين أنهما كانا أو يكونان ، ولم تقصد الخبر عن كون أحدهما قبل الآخر ، تقدم المتأخر حدوثا على المتقدم حدوثه منهما أحيانا ، فهذا من ذلك ؛ لأنه لم يقصد فيه إلى الخبر عن كون الحياة قبل الممات ، فقدم ذكر الممات قبل ذكر الحياة ، إذ كان القصد إلى الخبر عن أنهم يكونون مرة أحياء وأخرى أمواتا .
وقوله ( وما يهلكنا إلا الدهر ) يقول - تعالى ذكره - مخبرا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا : وما يهلكنا فيفنينا إلا مر الليالي والأيام وطول العمر ، إنكارا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم .
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله ( وما يهلكنا إلا دهر يمر ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وما يهلكنا إلا الدهر ) قال : الزمان .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ( وما يهلكنا إلا الدهر ) قال ذلك مشركو قريش ( وما يهلكنا إلا الدهر ) : إلا العمر .
وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الشرك كانوا يقولون : الذي يهلكنا ويفنينا الدهر والزمان ، ثم يسبون ما يفنيهم ويهلكهم ، وهم يرون أنهم [ ص: 79 ] يسبون بذلك الدهر والزمان ، فقال الله - عز وجل - لهم : أنا الذي أفنيكم وأهلككم ، لا الدهر والزمان ، ولا علم لكم بذلك .
ذكر الرواية بذلك عمن قاله :
حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار ، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا ، فقال الله في كتابه : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) قال : فيسبون الدهر ، فقال الله تبارك وتعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار" .
حدثنا عمران بن بكار الكلاعي قال : ثنا أبو روح قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال; قال أبو هريرة ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قال الله تعالى : يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الليل والنهار" .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله استقرضت عبدي فلم يعطني ، وسبني عبدي يقول : وادهراه ، وأنا الدهر " .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهري ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله قال : لا يقولن أحدكم : يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر ، أقلب ليله ونهاره ، وإذا شئت قبضتهما" . [ ص: 80 ]
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية ، عن هشام ، عن أبي هريرة قال : " لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر " ( وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) يقول - تعالى ذكره - : وما لهؤلاء المشركين القائلين : ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، بما يقولون من ذلك من علم : يعني من يقين علم ، لأنهم يقولون ذلك تخرصا بغير خبر أتاهم من الله ، ولا برهان عندهم بحقيقته ( إن هم إلا يظنون ) يقول - جل ثناؤه - : ما هم إلا في ظن من ذلك ، وشك يخبر عنهم أنهم في حيرة من اعتقادهم حقيقة ما ينطقون من ذلك بألسنتهم .


