القول في أولئك على هدى من ربهم )
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله : " تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك على هدى من ربهم " : فقال بعضهم : عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين ، أعني : المؤمنين بالغيب من العرب ، والمؤمنين بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل . وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه ، وأنهم هم المفلحون .
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
292 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن في خبر ذكره ، عن السدي أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن ، عن مرة الهمداني ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أما " الذين يؤمنون بالغيب " ، فهم المؤمنون من العرب ، " والذين يؤمنون بما أنزل إليك " ، المؤمنون من أهل الكتاب . ثم جمع الفريقين فقال : " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " .
وقال بعضهم : بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، وهم الذين يؤمنون [ ص: 248 ] بما أنزل إلى محمد ، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل .
وقال آخرون : بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل إلى من قبله ، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب .
وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك ) في محل خفض ، ومحل رفع .
فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين : أحدهما : من قبل العطف على ما في " يؤمنون بالغيب " من ذكر "الذين " ، والثاني : أن يكون خبر مبتدأ ، أو يكون " أولئك على هدى من ربهم " ، مرافعها .
وأما الخفض فعلى العطف على "المتقين " ، وإذا كانت معطوفة على "الذين " اتجه لها وجهان من المعنى : أحدهما : أن تكون هي و "الذين " الأولى ، من صفة المتقين . وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد "الم " ، نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين . والوجه الثاني : أن تكون "الذين " الثانية معطوفة في الإعراب على "المتقين " بمعنى الخفض ، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول . وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله "الم " ، غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين .
وقد يحتمل أن تكون "الذين " الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة . وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف ، إذ كانت في مبتدأ آية ، وإن كانت من صفة المتقين .
فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه ، والخفض من وجهين .
وأولى التأويلات عندي بقوله ( أولئك على هدى من ربهم ) ما ذكرت من قول ابن مسعود ، وأن تكون "أولئك " إشارة إلى الفريقين ، أعني : [ ص: 249 ] المتقين ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وتكون "أولئك " مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله " وابن عباس على هدى من ربهم "; وأن تكون "الذين " الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام ، على ما قد بيناه .
وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ، ثم أثنى عليهم . فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء ، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات . كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال ، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر ، ويحرم الآخر جزاء عمله . فكذلك سبيل الثناء بالأعمال ، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء .
وأما معنى قوله ( أولئك على هدى من ربهم ) فإن معنى ذلك : أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد ، بتسديد الله إياهم ، وتوفيقه لهم . كما : -
293 - حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا ، عن سلمة بن الفضل محمد بن إسحاق ، [ ص: 250 ] عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، " أولئك على هدى من ربهم " : أي على نور من ربهم ، واستقامة على ما جاءهم .