القول في وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ( 29 ) ) [ ص: 134 ] تأويل قوله تعالى : (
يقول - تعالى ذكره - مقرعا كفار قريش بكفرهم بما آمنت به الجن ( وإذ صرفنا إليك ) يا محمد ( نفرا من الجن يستمعون القرآن ) ذكر أنهم صرفوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحادث الذي حدث من رجمهم بالشهب .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن سعيد بن جبير قال : " كانت الجن تستمع ، فلما رجموا قالوا : إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض ، فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر ، فذهبوا إلى قومهم" .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : " بنخلة ، وهو يقرأ . فاستمعوا حتى إذا فرغ ( ولوا إلى قومهم منذرين ) . . . إلى قوله ( مستقيم ) " . ولما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - حرست السماء ، فقال الشيطان : ما حرست إلا لأمر قد حدث في الأرض فبعث سراياه في الأرض ، فوجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قائما يصلي صلاة الفجر بأصحابه
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) . . . إلى آخر الآية ، قال : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يقعدون مقاعد للسمع; فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - حرست السماء حرسا شديدا ، ورجمت الشياطين ، فأنكروا ذلك ، وقالوا : ( لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) فقال إبليس : لقد حدث في الأرض حدث ، واجتمعت إليه الجن ، فقال : تفرقوا في الأرض ، فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء ، وكان أول بعث ركب من أهل نصيبين ، وهي أشراف الجن وساداتهم ، فبعثهم إلى [ ص: 135 ] تهامة ، فاندفعوا حتى بلغوا الوادي ، وادي نخلة ، فوجدوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ، فاستمعوا; فلما سمعوه يتلو القرآن ، قالوا : أنصتوا ، ولم يكن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن; فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين .
واختلف أهل التأويل في مبلغ عدد النفر الذين قال الله ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) فقال بعضهم : كانوا سبعة نفر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال : ثنا عبد الحميد قال : ثنا النضر بن عربي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) . . . الآية ، قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلا إلى قومهم . (
وقال آخرون : بل كانوا تسعة نفر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) قال : كانوا تسعة نفر فيهم زوبعة .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو أحمد قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش قال : " أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ببطن نخلة ، ( فلما حضروه ) قال : كانوا تسعة أحدهم زوبعة" .
وقوله ( فلما حضروه ) يقول : فلما حضر هؤلاء النفر من الجن الذين صرفهم الله إلى رسوله نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .
واختلف أهل العلم في صفة حضورهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : حضروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعرفون الأمر الذي [ ص: 136 ] حدث من قبله ما حدث في السماء ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يشعر بمكانهم ، كما قد ذكرنا عن ابن عباس قبل .
وكما حدثنا ابن بشار قال : ثنا هوذة قال : ثنا عوف ، عن الحسن في قوله ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) قال : ما شعر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءوا ، فأوحى الله - عز وجل - إليه فيهم ، وأخبر عنهم .
وقال آخرون : بل أمر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ عليهم القرآن ، وأنهم جمعوا له بعد أن تقدم الله إليه بإنذارهم ، وأمره بقراءة القرآن عليهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) قال : " ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى ، قال : فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن ، فأيكم يتبعني" ؟ فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فقال رجل : يا رسول الله إنك لذو بدئة ، فاتبعه فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعبا يقال له عبد الله بن مسعود ، شعب الحجون . قال : وخط نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله خطا ليثبته به ، قال : فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغطا شديدا ، حتى خفت على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تلا القرآن; فلما رجع نبي الله قلت : يا نبي الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم ، فقضي بينهم بالحق .
وذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزط ، فراعوه ، قال : من هؤلاء ؟ قالوا : هؤلاء نفر من الأعاجم ، قال : ما رأيت للذين قرأ عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام من الجن شبها أدنى [ ص: 137 ] من هؤلاء .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب ليلة دعا الجن ، فخط النبي - صلى الله عليه وسلم - على وابن مسعود ابن مسعود خطا ، ثم قال له : لا تخرج منه ثم ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن ، فقرأ عليهم القرآن ، ثم رجع إلى ابن مسعود فقال : هل رأيت شيئا ؟ قال : سمعت لغطا شديدا ، قال : إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينها ، فقضي بينهم بالحق ، وسألوه الزاد ، فقال : وكل عظم لكم عرق ، وكل روث لكم خضرة . قالوا : يا رسول الله تقذرها الناس علينا ، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجى بأحدهما; فلما قدم ابن مسعود الكوفة رأى الزط ، وهم قوم طوال سود ، فأفزعوه ، فقال : أظهروا ؟ فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزط ، فقال ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر . عن ، عن يحيى بن أبي كثير عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال : " لابن مسعود حدثت أنك كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة وفد الجن ، قال : أجل ، قال : فكيف كان ؟ فذكر الحديث كله . وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خط عليه خطا وقال : ولا تبرح منها ، فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذعر ثلاث مرات ، حتى إذا كان قريبا من الصبح ، أتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنمت ؟ قلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول : اجلسوا ، قال : لو خرجت لم آمن أن يختطفك بعضهم ، ثم قال : هل رأيت شيئا ؟ قال : نعم رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض ، قال : أولئك نصيبين ، سألوني المتاع ، والمتاع الزاد ، فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة ، فقلت : يا رسول الله ، وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : إنهم لن يجدوا عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، [ ص: 138 ] ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة" جن .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : أخبرنا أبو زرعة وهب بن راشد قال : قال يونس ، قال ابن شهاب : أخبرني أبو عثمان بن شبة الخزاعي وكان من أهل الشام أن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وهو بمكة : مكة ، خط لي برجله خطا ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فغشيته أسودة كبيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الفجر ، فانطلق متبرزا ، ثم أتاني فقال : وما فعل الرهط ؟ قلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأخذ عظما أو روثا أو جمجمة فأعطاهم إياه زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث" . من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل . فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى
حدثني قال : ثنا عمي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال : أخبرني عبد الله بن وهب يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشأم أن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر مثله سواء ، إلا أنه قال : فأعطاهم روثا أو عظما زادا ، ولم يذكر الجمجمة . عبد الله بن مسعود
حدثني قال : ثني عمي ، قال : أخبرني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب يونس ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، أن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : بالحجون " . " بت الليلة أقرأ على الجن ربعا
واختلفوا في الموضع الذي تلا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه القرآن ، فقال قرأ عليهم عبد الله بن مسعود بالحجون ، وقد ذكرنا الرواية عنه [ ص: 139 ] بذلك .
وقال آخرون : قرأ عليهم بنخلة ، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك ، ونذكر من لم نذكره .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا خلاد ، عن زهير بن معاوية ، عن جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس " أن النفر الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جن نصيبين أتوه وهو بنخلة" .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) قال : لقيهم بنخلة ليلتئذ . وقوله ( فلما حضروه قالوا أنصتوا ) يقول - تعالى ذكره - : فلما حضروا القرآن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا لنستمع القرآن .
كما حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر ( فلما حضروه قالوا أنصتوا ) قالوا : صه .
قال : ثنا أبو أحمد قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، مثله .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله ( فلما حضروه قالوا أنصتوا ) قد علم القوم أنهم لن يعقلوا حتى ينصتوا .
وقوله ( فلما قضي ) يقول : فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القراءة وتلاوة القرآن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، [ ص: 140 ] عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( فلما قضي ) يقول : فلما فرغ من الصلاة . ( ولوا إلى قومهم منذرين ) . وقوله ( ولوا إلى قومهم منذرين ) يقول : انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به .
وذكر عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلهم رسلا إلى قومهم .
حدثنا بذلك أبو كريب ، قال ثنا قال : ثنا عبد الحميد الحماني النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . وهذا القول خلاف القول الذي روي عنه أنه قال : لم يكن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن ؛ لأنه محال أن يرسلهم إلى آخرين إلا بعد علمه بمكانهم ، إلا أن يقال : لم يعلم بمكانهم في حال استماعهم للقرآن ، ثم علم بعد قبل انصرافهم إلى قومهم ، فأرسلهم رسلا حينئذ إلى قومهم ، وليس ذلك في الخبر الذي روي .